. بيان حقيقة الإخلاص
اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصا ويسمى الفعل المصفي المخلص إخلاصا ، قال الله تعالى : من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به والإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية ، والشرك منه خفي ومنه جلي ، وكذا الإخلاص والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات .
وقد ذكر حقيقة النية ، وأنها ترجع إلى إجابة البواعث فمهما كان الباعث واحدا على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصا بالإضافة إلى المنوي ، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك ، ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات وأقل أموره ما ورد في الخبر من إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام : يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر .
وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر ، إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس ومثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يعتق عبدا ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر ، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده أو ليهرب عن عدو له في منزله أو يتبرم بأهله وولده أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياما أو ليغزو وليمارس الحرب ، ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال ، أو ليكون عزيزا بين العشيرة أو ليكون عقاره أو ماله محروسا بعز العلم عن الأطماع أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج ، بلذة الحديث .
أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس أو لينال به رفقا في الدنيا أو كتب مصحفا ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه أو حج ماشيا ليخفف عن نفسه الكراء أو توضأ ليتنظف أو يتبرد .
أو اغتسل لتطيب رائحته ، أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن .
أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام ، أو ليتفرغ لأشغاله ، فلا يشغله الأكل عنها أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه ، أو يعود مريضا ليعاد إذا مرض ، أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله ، أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير ، ويذكر به ، وينظر إليه بعين الصلاح والوقار ، فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى .
ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور ، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص ، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى ، وتطرق إليه الشرك .
وقد قال تعالى . أنا أغنى الشركاء عن الشركة