وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه والذي ينقدح لما فيه والعلم عند الله أن ينظر إلى قدر قوة الباعث ، فإن كان الباعث الديني مساويا للباعث النفسي تقاوما وتساقطا ، وصار العمل لا له ولا عليه ، وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع ، وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب .
نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب .
وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني ؛ وهذا لقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير ، بل إن كان غالبا على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه ، وبقيت زيادة ، وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد .
وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها ، ، وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه ، وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها . فداعية الرياء من المهلكات
فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان ، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوى تلك الصفة ، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوى أيضا تلك الصفة ، وأحدهما مهلك والآخر منج ، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما ، فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته ، فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما وإن كان أحدهما غالبا لم يخل الغالب عن أثر فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ، ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثيره في إنارة القلب أو تسويده ، وفي تقريبه من الله أو إبعاده ، فإذا جاء بما يقربه شبرا مع ما يبعده شبرا فقد عاد إلى ما كان فلم يكن له ولا عليه وإن ، كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبرا واحدا فضل له لا محالة شبر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه ، فإذا اجتمعا جميعا فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة . أتبع السيئة الحسنة تمحها
ويشهد ، لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجا ومعه تجارة صح حجه ، وأثيب عليه ، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس .
نعم ، يمكن أن يقال : إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة ، وتجارته غير موقوفة عليه ، فهو خالص ، وإنما المشترك طول المسافة ، ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة .
ولكن الصواب أن يقال : مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ما .
وعندي أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها ، ويبعد أن يقال : إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم ، بل العدل أن يقال : إذا كان الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله تعالى ، وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية ، فلا يحبط به الثواب .
نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلا ؛ فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة .
فإن قلت : فالآيات والأخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب ، وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ فقد روى وغيره من التابعين أن طاوس رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف ، أو قال : يتصدق ، فيحب أن يحمد ويؤجر ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزلت فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقد قصد الأجر والحمد جميعا وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : معاذ وقال " أدنى الرياء شرك " أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقال لمن أشرك في عمله : خذ أجرك ممن عملت له " وروي عن عبادة إن الله عز وجل يقول : أنا أغنى الأغنياء عن الشركة ، من عمل لي عملا فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي وروى أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، الرجل يقاتل حمية ، والرجل يقاتل شجاعة ، والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال أبو موسى رضي الله عنه : تقولون : فلان شهيد ، ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا وقال عمر رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود " من هاجر يبتغي شيئا من الدنيا فهو له " .