الدرجة الثانية وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم وعلى قلوبهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال إنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة . مراقبة الورعين من أصحاب اليمين
نعم غلب عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعا عليهم فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة .
وتعرف اختلاف الدرجتين بالمشاهدات فإنك في خلوتك قد تتعاطى أعمالا فيحضرك صبي أو امرأة فتعلم أنه مطلع عليك فتستحي منه فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء فإن مشاهدته وإن كانت لا تدهشك ولا تستغرقك فإنها تهيج الحياء منك .
وقد يدخل عليك ملك من الملوك أو كبير من الأكابر فيستغرقك التعظيم حتى تترك كل ما أنت فيه شغلا به لا حياء منه فهكذا . تختلف مراتب العباد في مراقبة الله تعالى
ومن كان في هذه الدرجة فيحتاج أن يراقب جميع حركاته وسكناته وخطراته ولحظاته وبالجملة جميع اختياراته وله فيها نظران نظر قبل العمل ونظر في العمل أما قبل العمل فلينظر أن ما ظهر له وتحرك بفعله خاطره أهو لله خاصة أو هو في هوى النفس ومتابعة الشيطان فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق فإن كان لله تعالى أمضاه وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكف عنه ثم لام نفسه على رغبته فيه وهمه به وميله إليه وعرفها سوء فعلها وسعيها في فضيحتها وأنها عدوة نفسها إن لم يتداركها الله بعصمته .
وهذا التوقف في بداية الأمور إلى حد البيان واجب محتوم لا محيص لأحد عنه فإن في الخبر أنه ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين الديوان الأول لم والثاني كيف والثالث لمن ومعنى لم أي لم فعلت هذا أكان عليك أن تفعله لمولاك أو ملت إليه بشهوتك وهواك فإن سلم منه بأن كان عليه أن يعمل ذلك لمولاه سئل عن الديوان الثاني فقيل له كيف فعلت هذا فإن لله في كل عمل شرطا وحكما لا يدرك قدره ووقته وصفته إلا بعلم فيقال له كيف فعلت أبعلم محقق أم بجهل وظن فإن سلم من هذا نشر الديوان الثالث وهو المطالبة بالإخلاص فيقال له لمن عملت ألوجه الله خالصا وفاء بقولك لا إله إلا الله فيكون أجرك على الله أو لمراءاة خلق مثلك فخذ أجرك منه أم عملته لتنال عاجل دنياك فقد وفيناك نصيبك من الدنيا أم عملته بسهو وغفلة فقد سقط أجرك وحبط عملك وخاب سعيك وإن عملت لغيري فقد استوجبت مقتي وعقابي إذ كنت عبدا لي تأكل رزقي وتترفه بنعمتي ثم تعمل لغيري أما سمعتني أقول إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ويحك أما سمعتني أقول ألا لله الدين الخالص .
فإذا عرف العبد أنه بصدد هذه المطالبات والتوبيخات طالب نفسه قبل أن تطالب وأعد للسؤال جوابا وليكن الجواب صوابا فلا يبدئ ولا يعيد إلا بعد التثبت ولا يحرك جفنا ولا أنملة إلا بعد التأمل .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ إن الرجل ليسأل عن كحل عينيه وعن فته الطين بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه .
وقال الحسن . كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كان لله أمضاه
وقال الحسن رحم الله تعالى عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر .
وقال في حديث سعد حين أوصاه اتق الله عند همك إذا هممت . سلمان
وقال محمد بن علي إن المؤمن وقاف متأن يقف عند همه ليس كحاطب ليل .
فهذا هو النظر الأول في هذه المراقبة ولا يخلص من هذا إلا العلم المتين والمعرفة الحقيقية بأسرار الأعمال وأغوار النفس ومكايد الشيطان فمتى لم يعرف نفسه وربه وعدوه إبليس ولم يعرف ما يوافق هواه ولم يميز بينه وبين ما يحبه الله ويرضاه في نيته وهمته وفكرته وسكونه وحركته فلا يسلم في هذه المراقبة بل الأكثرون يرتكبون الجهل فيما يكرهه الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا تظنن أن الجاهل بما يقدر على التعلم فيه يعذر هيهات بل طلب العلم فريضة على كل مسلم ولهذا كانت ركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من غير عالم لأنه يعلم آفات النفوس ومكايد الشيطان ومواضع الغرور فيتقي ذلك والجاهل لا يعرفه فكيف يحترز منه فلا يزال الجاهل في تعب والشيطان منه في فرح وشماتة فنعوذ بالله من الجهل والغفلة فهو رأس كل شقاوة وأساس كل خسران .
فحكم الله تعالى على كل عبد أن يراقب نفسه عند همه بالفعل وسعيه بالجارحة فيتوقف عن الهم وعن السعي حتى ينكشف له بنور العلم أنه لله تعالى فيمضيه أو هو لهوى النفس فيتقيه ويزجر القلب عن الفكر فيه وعن الهم به فإن الخطوة الأولى في الباطل إذا لم تدفع أورثت الرغبة والرغبة تورث الهم والهم يورث جزم القصد والقصد يورث الفعل والفعل يورث البوار والمقت فينبغي أن تحسم مادة الشر من منبعه الأول وهو الخاطر فإن جميع ما وراءه يتبعه .
ومهما أشكل على العبد ذلك وأظلمت الواقعة فلم ينكشف له فيتفكر في ذلك بنور العلم ويستعيذ بالله من مكر الشيطان بواسطة الهوى فإن عجز عن الاجتهاد والفكر بنفسه فيستضيء بنور علماء الدين وليفر من العلماء المضلين المقبلين على الدنيا فراره من الشيطان بل أشد فقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام تسأل عني عالما أسكره حب الدنيا فيقطعك عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي فالقلوب المظلمة بحب الدنيا وشدة الشره والتكالب عليها محجوبة عن نور الله تعالى فإن مستضاء أنوار القلوب حضرة الربوبية فكيف يستضيء بها من استدبرها وأقبل على عدوها وعشق بغيضها ومقيتها وهي شهوات الدنيا فلتكن همة المريد أولا في أحكام العلم أو في طلب عالم معرض عن الدنيا أو ضعيف الرغبة فيها إن لم يجد من هو عديم الرغبة فيها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات جمع بين الأمرين وهما متلازمان حقا فمن ليس له عقل وازع عن الشهوات فليس له بصر ناقد في الشبهات .
ولذلك قال عليه السلام من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا فما قدر العقل الضعيف الذي سعد الآدمي به حتى يعمد إلى محوه ومحقه بمقارنة الذنوب ومعرفة آفات الأعمال قد اندرست في هذه الأعصار فإن الناس كلهم قد هجروا هذه العلوم واشتغلوا بالتوسط بين الخلق في الخصومات الثائرة في اتباع الشهوات وقالوا هذا هو الفقه وأخرجوا هذا العلم الذي هو فقه الدين عن جملة العلوم وتجردوا لفقه الدنيا الذي ما قصد به إلا دفع الشواغل عن القلوب ليتفرغ لفقه الدين فكان فقه الدنيا من الدين بواسطة هذا الفقه .
وفي الخبر: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتي عليكم زمان خيركم فيه المتثبت ولهذا توقف طائفة من الصحابة في القتال مع أهل العراق وأهل الشام لما أشكل عليهم الأمر كسعد بن أبي وقاص وأسامة وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم .