المرابطة السادسة في . توبيخ النفس ومعاتبتها
اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء ميالة إلى الشر فرارة من الخير وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها ، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية قال تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس إلا فاستح مني وقال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها وأنها أبدا تتعزز بفطنتها وهدايتها ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها : يا نفس ما أعظم جهلك تدعين الحكمة .
والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقا ، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب ، فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم وعساك اليوم تختطفين أو غدا فأراك ترين الموت بعيدا ويراه الله قريبا ، أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت ، أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأة وأنه لا يأتي في شيء دون شيء ولا في شتاء دون صيف ، ولا في صيف دون شتاء ، ولا في نهار دون ليل ، ولا في ليل دون نهار ، ولا يأتي في الصبا دون الشباب ، ولا في الشباب دون الصبا ، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب ، أما تتدبرين قوله تعالى : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ويحك يا نفس إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك ، وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياءك ، ويحك يا نفس لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له ، فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه ، أفتظنين أنك تطيقين عذابه ، هيهات هيهات جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام أو قربي أصبعك من النار ليتبين قدر طاقتك أم تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فما لك لا تعولين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك ، فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى ، وإذا أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار والدرهم فما لك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا ، تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب أفتحسبين ، أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا ، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها ، وأن رب الآخرة والدنيا واحد ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودواعيك الباطلة فإنك تدعين الإيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك ، ألم يقل لك سيدك ومولاك وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، وقال في أمر الآخرة : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعي فيها فكذبته بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ، ما هذا من علامات الإيمان ، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت انفلت وتخلصت ، وهيهات أتحسبين أنك تتركين سدى ، ألم تكوني نطفة من مني يمنى ، ثم كنت علقة فخلق فسوى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك ، أما تتفكرين أنه مماذا خلقك من نطفة خلقك فقدرك ثم السبيل يسرك ثم أماتك فأقبرك أفتكذبينه في قوله .
ثم إذا شاء أنشرك ، فإن لم تكوني مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك ، ولو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته وجاهدت نفسك فيه ، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات ، وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودي يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وبرهان ، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة .
الأولياء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء ، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه ، ما هذه أفعال العقلاء ، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك ، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وآمنت به فما لك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله ، يختطفك من غير مهلة ، فبماذا أمنت استعجال الأجل وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها ، إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك ، أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة ، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه اعتمادا على كرم الله سبحانه وتعالى ، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع وأنه موصل إلى الدرجات العلا ، فلعل اليوم آخر عمرك فلم تشتغلين فيه بذلك ؟. فإن أوحي إليك بالإمهال فما المانع من المبادرة وما الباعث لك على التسويف ؟ هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه ، فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس وهذا ، محال وجوده ، أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وتقولين : غدا غدا ، فقد جاء الغد وصار يوما ، فكيف وجدته ، أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غدا عنه أعجز ، وأعجز لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعبد العبد بقلعها فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ويزيد القالع ضعفا ووهنا ، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب ، بل من العناء رياضة الهرم .