وأما فهي العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرته الخاصة . ثمرة الفكر
العلم لا غير .
نعم إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح .
فالعمل تابع الحال ، والحال تابع العلم ، والعلم تابع الفكر .
فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا هو الذي يكشف لك فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر ؛ لأن الفكر ذكر وزيادة .
وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر .
فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ، ولذلك قيل : تفكر ساعة خير من عبادة سنة فقيل : هو الذي ينقل من المكاره إلى المحاب ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة ، وقيل : هو الذي يحدث مشاهدة وتقوى ، ولذلك قال تعالى لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا وإن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة ، فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار ، فإذا رسخت هذه المعرفة يقينا .
في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا .
وهذا ما عنيناه بالحال إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها .
وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في إطراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة .
فههنا خمس درجات أولاها التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب وثانيتها التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما والثالثة حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها .
والرابعة تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة .
والخامسة خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال .
فكما يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار . يستضيء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل ، فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه .
ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره .
فإذن ثمرة الفكر العلوم والأحوال والعلوم لا نهاية لها والأحوال التي تتصور أن تتقلب على القلب لا يمكن حصرها .
ولهذا لو أراد مريد أن يحصر فنون الفكر ومجاريه وأنه فيماذا يتفكر لم يقدر عليه لأن مجاري الفكر غير محصورة وثمراته غير متناهية ، نعم نحن نجتهد في ضبط مجاريه بالإضافة إلى مهمات العلوم الدينية وبالإضافة إلى الأحوال التي هي مقامات السالكين ويكون ذلك ضبطا جمليا فإن تفصيل ذلك يستدعي شرح العلوم كلها ، وجملة هذه الكتب كالشرح لبعضها فإنها مشتملة على علوم تلك العلوم تستفاد من أفكار مخصوصة .
فلنشر إلى ضبط المجامع فيها ليحصل الوقوف على مجاري الفكر .