فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربى في قلبه حب الجاه والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق .
قال صلى الله عليه وسلم : حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفسادا فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم ولا وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم . ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم
فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها وهذه وظيفة العالم المتقي .
فأما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار ، فإن من خاف شيئا هرب منه ، ومن رجا شيئا طلبه وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي ونحن منهمكون فيها وأن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات ونحن مقصرون في الفرائض منها .
فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدي بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها ويقال : لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا .
فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا .
فما أعظم الفتنة التي تعرضنا لها لو تفكرنا فنسأل الله تعالى أن يصلحنا ويصلح بنا ويوفقنا للتوبة قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا .
فهذه في علم المعاملة فإن فرغوا منها انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب ، ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات والاتصاف بجميع المنجيات وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان مدخولا معلولا مكدرا مقطوعا ، وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم ، ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه ، ولكن تحت ثيابه حيات وعقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة ولا طريق له في كمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه . مجاري أفكار العلماء والصالحين
وهذه الصفات المذمومة عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات وفي القبر يزيد ألم لدغها على لدغ العقارب والحيات .
فهذا القدر كاف في التنبيه على مجاري فكر العبد في صفات نفسه المحبوبة والمكروهة عند ربه تعالى .
القسم الثاني . الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه
وفيه مقامان : المقام الأعلى الفكر في : ذاته وصفاته ومعاني أسمائه وهذا مما منع منه حيث قيل : تفكروا في خلق الله تعالى ولا تتفكروا في ذات الله وذلك لأن العقول تتحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر .
بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى كحال بصر الخفاش بالإضافة إلى نور الشمس ، فإنه لا يطيقه البتة بل يختفي نهارا وإنما يتردد ليلا ينظر في بقية نور الشمس إذا وقع على الأرض .
وأحوال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس ، فإنه يقدر على النظر إليها ولا يطيق دوامه ويخشى على بصره لو أدام النظر ، ونظره المختطف إليها يورث العمش ويفرق البصر .
وكذلك النظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب إذن أن لا يتعرض لمجاري فإن أكثر العقول لا تحتمله بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات ، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته . الفكر في ذات الله سبحانه وصفاته ،
بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا ، إذ قيل لهم إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو ، وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم .
فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في عظمة الله وجلاله حتى قال بعض الحمقى من العوام : إن هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء .
وهذا لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه ، فكل ما لا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه نعم غايته أن يقدر نفسه جميل الصورة جالسا على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره ، فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق الله تعالى وتقدس حتى يفهم العظمة .
بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران ، لأنكر ذلك ، وقال : كيف يكون خالقي أنقص مني أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زمنا لا يقدر على الطيران أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوري ، وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل وإن الإنسان لجهول ظلوم كفار ، ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه : لا تخبر عبادي بصفاتي فينكروني ولكن أخبرهم عني بما يفهمون .