وأمر الأعصاب ، والعروق ، والأوردة ، والشرايين ، وعددها ، ومنابتها ، وانشعاباتها ، أعجب من هذا كله ; وشرحه يطول ثم في جملة البدن فكل ذلك نظر إلى عجائب أجسام البدن . وعجائب المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم . فللفكر مجال في آحاد هذه الأجزاء ، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضي به العجب ، وكل ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة ، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السماوات وكواكبها وما حكمته في أوضاعها ، وأشكالها ، ومقاديرها ، وأعدادها ، واجتماع بعضها ، وتفرق بعضها ، واختلاف صورها ، وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماوات تنفك عن حكمة وحكم ; بل هي أحكم خلقا ، وأتقن صنعا ، وأجمع للعجائب ، من بدن الإنسان . بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات ، ولذلك قال تعالى : فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه ، وإلى بدنه وصفاته أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها .
. فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا وتأمل أنه أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك ؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته ، وكيفية خلقته ، بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه . فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط تأنق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان ، وقال الناظر إليها : كأنه إنسان عظم تعجبك من صنعة النقاش ، وحذقه ، وخفة يده ، وتمام فطنته ، وعظم في قلبك محله ، مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ ، والقلم ، واليد ، وبالقدرة ، وبالعلم وبالإرادة وشيء من ذلك ليس من فعل النقاش ، ولا خلقه ، بل هو من خلق غيره ، وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص ، فيكثر تعجبك منه ، وتستعظمه . لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا
وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب والترائب ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها ، وقدرها فأحسن تقديرها وتصويرها ، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها ، وزين ظاهرها وباطنها ، ورتب عروقها وأعصابها ، وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعلها سميعة بصيرة ، عالمة ناطقة ، وخلق لها الظهر أساسا لبدنها ، والبطن حاويا لآلات غذائها ، والرأس جامعا لحواسها ففتح العينين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ، ولونها ، وهيئاتها ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها ، وتباعد أقطارها ، فهو ينظر إليها ثم شق أذنيه وأودعهما ماء مرا ليحفظ سمعها ، ويدفع الهوام عنها ، وحوطها بصدقة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها ولتحس ، بدبيب الهوام إليها . وجعل فيها تحريفات ، واعوجاجات لتكثر ، حركة ما يدب فيها ، ويطول طريقه فيتنبه من ، النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وأودع فيه حاسة الشم ، ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته وليستنشقه ، بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه ، وترويحا لحرارة باطنه وفتح الفم ، وأودعه اللسان ناطقا وترجما ، ومعربا عما في القلب فأحكم أصولها ، وحدد رؤوسها ، وبيض لونها ، ورتب صفوفها ، متساوية الرءوس ، متناسقة الترتيب ، كأنها الدر المنظوم وزين الفم بالأسنان لتكون ، آلة الطحن ، والكسر والقطع ، ، وليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت ، وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الصوت في مخارج مختلفة ، تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها . ثم وخلق الشفتين ، وحسن لونها وشكلها ، لتنطبق على الفم فتسد منفذه ، والطول والقصر ، حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا ، يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقا حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة ، والخشونة والملاسة ، وصلابة الجوهر ورخاوته والأصداغ وزين الوجه باللحية والحاجبين ثم زين الرأس بالشعر
ثم خلق الأعضاء الباطنة ، وسخر كل واحد لفعل مخصوص ; فسخر المعدة لنضج الغذاء والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم والطحال ، والمرارة ، والكلية ، لخدمة الكبد . فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها والمرارة تخدمها بجذب الصفراء عنها والكلية تخدمها بجذب المائية عنها والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تخرجه في طريق الإحليل والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ثم وزين الحاجب برقة الشعر ، واستقواس الشكل ، وزين العينين بالأهداب . وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس ، وقسم كل أصبع بثلاث أنامل ووضع الأربعة في جانب ، والإبهام في جانب لتدور ، الإبهام على الجميع ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع ، وتفاوت الأربع في الطول ، وترتيبها في صف واحد ، لم يقدروا عليه ; إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض ، والإعطاء ، فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد وإن جمعها كانت له آلة للضرب ، وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له وإن بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل وليحك ، بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ; ولم يقم أحد مقامه في حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ، ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل ثم خلق هذا كله من النطفة ، وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد إليه البصر لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا فشيئا ; ولا يرى المصور ولا آلته ، فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا يمس آلته ومصنوعه ولا يلاقيه وهو يتصرف فيه فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه . خلق اليدين وطولهما لتمتد إلى المقاصد
ثم انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ ; كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه .
ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ، ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف ، واستخرجه من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي ، ثم فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيقا جدا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا ، فإن الطفل يطيق منه إلا القليل ، ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع .