ومن آياته ملكوت السماوات والأرض ، وما فيها من الكواكب ، وهو الأمر كله ، ومن أدرك الكل وفاته عجائب السماوات فقد فاته الكل تحقيقا .
فالأرض ، والبحار ، والهواء ، وكل جسم سوى السماوات ، بالإضافة إلى السماوات قطرة في ، بحر ، وأصغر .
ثم انظر كيف عظم الله أمر السماوات ، والنجوم ، في كتابه ، فما من سورة إلا وتشتمل على تفخيمها في مواضع وكم من قسم في القرآن بها كقوله تعالى : والسماء ذات البروج والسماء والطارق والسماء ذات الحبك والسماء وما بناها وكقوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها وكقوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وقوله تعالى والنجم إذا هوى فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم فقد علمت أن وما أقسم الله بها ، فما ظنك بما أقسم الله تعالى به ! وأحال الأرزاق عليه وأضافها إليه ! فقال تعالى : عجائب النطفة القذرة عجز عن معرفتها الأولون والآخرون ، وفي السماء رزقكم وما توعدون وأثنى على المتفكرين فيه ، فقال : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أي تجاوزها من غير فكر وذم المعرضين عنها فقال : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون فأي نسبة لجميع البحار والأرض إلى السماء وهي ، متغيرات على القرب والسموات صلاب شداد محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، ولذلك سماه الله تعالى محفوظا ، فقال : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وقال سبحانه وبنينا فوقكم سبعا شدادا وقال أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها . فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت
ولا تظنن أن معنى النظر إلى الملكوت بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء ، وضوء الكواكب ، وتفرقها ، فإن البهائم تشاركك في هذا النظر .
فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لا بل كل ما يدرك بحاسة البصر فالقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة ، وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت ، والله تعالى عالم الغيب والشهادة ، وجبار الملك والملكوت ، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول .
فأجل فعسى يفتح لك ابواب السماء فتجول بقلبك في أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة أيها العاقل فكرك في الملكوت ، رضي الله عنه حيث قال : رأى قلبي ربي وهذا لأن بلوغ الأقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى ، وأدنى شيء إليك نفسك ثم الأرض التي هي مقرك ثم الهواء المكتنف لك ثم النبات والحيوان ، وما على وجه الأرض ، ثم عجائب الجو ، وهو ما بين السماء والأرض ، ثم السموات السبع بكواكبها ثم الكرسي ثم العرش ثم الملائكة الذين هم حملة العرش ، وخزان السماوات ثم منه تجاوز إلى النظر إلى رب العرش ، والكرسي ، والسماوات ، والأرض ، وما بينهما فبينك وبين هذه المفاوز العظيمة والمسافات الشاسعة والعقبات الشاهقة وأنت بعد لم تفرغ من العقبة القريبة النازلة وهي معرفة ظاهر نفسك ثم صرت تطلق اللسان بوقاحتك وتدعي معرفة ربك ، وتقول : قد عرفته ، وعرفت خلقه ، ففي ماذا أتفكر إلى ؟ ماذا أتطلع . عمر بن الخطاب
؟ فارفع الآن رأسك إلى السماء وانظر فيها ، وفي كواكبها وفي ، دورانها ، وطلوعها ، وغروبها ، وشمسها ، وقمرها ، واختلاف مشارقها ، ومغاربها ، ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ، ومن غير تغير في سيرها ، بل تجري جميعا في منازل مرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طي السجل للكتاب واختلاف ألوانها فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى اللون الرصاصي ثم انظر كيفية أشكالها ، فبعضها على صورة العقرب ، وبعضها على صورة الحمل ، والثور ، والأسد والإنسان وما من صورة في الأرض إلا ولها مثال في السماء . وتدبر عدد كواكبها وكثرتها
ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي تطلع في كل يوم ، وتغرب بسير آخر سخرها له خالقها ولولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولم تعرف المواقيت ولأطبق الظلام على الدوام أو الضياء على الدوام ، فكان لا يتميز وقت المعاش عن وقت الاستراحة ، فانظر كيف جعل الله تعالى الليل لباسا والنوم سباتا والنهار معاشا . وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على ترتيب مخصوص
فإذا انخفضت الشمس من وسط السماء في مسيرها برد الهواء ، وظهر الشتاء ، وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ ، وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان . وانظر إلى إمالته مسير الشمس عن وسط السماء ، حتى اختلف بسببه الصيف ، والشتاء ، والربيع ، والخريف ،