الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإنما معنى هذه الكلمة أن يموت الرجل وليس في قلبه شيء غير الله فإذا لم يبق له مطلوب سوى الواحد الحق كان قدومه بالموت على محبوبه غاية النعيم في حقه ، وإن كان القلب مشغوفا بالدنيا ملتفتا إليها متأسفا على لذاتها وكانت الكلمة على رأس اللسان ولم ينطبق القلب على تحقيقها وقع الأمر في خطر المشيئة ، فإن مجرد حركة اللسان قليل الجدوى إلا أن يتفضل الله تعالى بالقبول .

وأما حسن الظن فهو مستحب في هذا الوقت وقد ذكرنا ذلك في كتاب الرجاء ، وقد وردت الأخبار بفضل حسن الظن بالله .

دخل واثلة بن الأسقع على مريض فقال : أخبرني كيف ظنك بالله ؟ قال : أغرقتني ذنوب لي وأشرفت على هلكة ، ولكني أرجو رحمة ربي فكبر واثلة وكبر أهل البيت بتكبيره ، وقال : الله أكبر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو يموت ، فقال : كيف تجدك قال ؟ : أرجو الله وأخاف ذنوبي ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وآمنه من الذي يخاف وقال ثابت البناني كان شاب به حدة وكان له أم تعظه كثيرا ، وتقول له : يا بني ، إن لك يوما فاذكر يومك ، فلما نزل به أمر الله تعالى ، أكبت عليه أمه وجعلت تقول له : يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا وأقول : إن لك يوما فقال يا أمه ، إن لي ربا كثير المعروف ، وإني لأرجو أن لا يعدمني اليوم بعض معروفه ، قال ثابت : فرحمه الله بحسن ظنه بربه .

وقال جابر بن وداعة كان شاب به رهق فاحتضر فقالت له أمه : يا بني توصي بشيء ؟ قال : نعم خاتمي لا تسلبينيه ، فإن فيه ذكر الله تعالى ، فلعل الله يرحمني ، فلما دفن رئي في المنام ، فقال : أخبروا أمي أن الكلمة قد نفعتني وأن الله قد غفر لي .

ومرض أعرابي فقيل له : إنك تموت ، فقال : أين يذهب بي قالوا ؟ : إلى الله ، قال : فما كراهتي أن أذهب إلى من لا يرى الخير إلا منه .

وقال أبو المعتمر بن سليمان قال أبي لما حضرته الوفاة : يا معتمر ، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به وكانوا يستحبون أن يذكر للعبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه .

التالي السابق


(وإنما معنى هذه الكلمة أن يموت الرجل وليس في قلبه غير الله) كما قال القائل:

حسبي ربي جل الله، ما في قلبي غير الله

(فإذا لم يبق له مطلوب سوى الواحد الحق) جل شأنه (كان قدومه بالموت على حبيبه غاية النعيم في حقه، وإن كان القلب مشغوفا بالدنيا ملتفتا إليها متأسفا على لذاتها) خائفا على فواتها (وكانت الكلمة على رأس اللسان ولم ينطق القلب على تحقيقها وقع الأمر في خطر المشيئة، فإن مجرد حركة اللسان قليل الجدوى إلا أن يتفضل الله بالقبول) وقد روى الطبراني من حديث معاذ: من مات يقول: لا إله إلا الله يقينا من نفسه دخل الجنة، وروى أحمد والبيهقي من حديثه: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه دخل الجنة.

(وأما حسن الظن) بالله تعالى (فهو مستحب في هذا الوقت وقد ذكرنا ذلك في كتاب الرجاء، وقد وردت الأخبار بفضل حسن الظن بالله) من ذلك (دخل) واثلة، بالمثلثة (ابن الأسقع) بالقاف بن كعب الليثي -رضي الله عنه- صحابي مشهور، نزل الشام وعاش إلى سنة خمس وثمانين، وله مائة وخمس سنين، روى له الجماعة (على مريض فقال: أخبرني كيف ظنك بالله؟ قال: أغرقتني ذنوب لي وأشرفت على هلكة، ولكني أرجو رحمة ربي فكبر واثلة) -رضي الله عنه- (وكبر أهل البيت بتكبيره، وقال: الله أكبر، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء) .

قال العراقي: رواه ابن حبان بالمرفوع منه، وقد تقدم، وأحمد والبيهقي في الشعب به جميعا. اهـ . قلت: ورواه بالرفع فقط ابن أبي الدنيا والحكيم والطبراني وابن عدي والحاكم وتمام بلفظ: قال الله عز وجل، فساقه، ورواه الشيرازي في الألقاب من حديث أنس، وفي لفظ للطبراني وابن حبان من حديث واثلة بلفظ: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فخير، وإن ظن شرا فشر، وروى الجملة الأولى فقط الطبراني من رواية بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وروى أحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.

(ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على شاب وهو يموت، فقال: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وآمنه من الذي يخاف) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أنس، وتقدم في كتاب الخوف والرجاء، ورواه القشيري في الرسالة فقال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي، حدثنا سوار، حدثنا جعفر، عن ثابت، عن أنس فذكره، وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: قال ربكم: لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة. ورواه أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس موصلا، وروى ابن المبارك في الزهد عن ابن عباس قال: إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقى ربه وهو حسن الظن بالله، وإذا كان حيا فخوفوه.

(وقال ثابت) بن أسلم (البناني) التابعي العابد -رحمه الله تعالى- (كان شاب به حدة) أي: نشاط إلى اللهو واللعب (وكانت له أم تعظه كثيرا، وتقول له: يا بني، إن لك يوما فاذكر يومك، فلما نزل به أمر الله تعالى، أكبت عليه أمه تقول له: يا بني قد كنت أحذرك [ ص: 278 ] مصرعك هذا وأقول: إن لك يوما فقال) الشاب (يا أمه، إن لي ربا كثير المعروف، وإني لأرجو أن لا يعدمني اليوم بعض معروفه، قال ثابت: فرحمه الله بحسن ظنه بربه) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله، ورواه أبو نعيم في الحلية عن أبي محمد بن حيان، حدثنا الحسن بن هارون بن عبد الله، حدثنا جعفر، حدثنا ثابت، قال: كان شاب به رهق، فكانت أمه تعظه فساقه، وفي آخره قال ثابت رحمه الله: حسن ظنه بالله في حالته تلك .

(وقال جابر بن وداعة) بفتح الواو (كان شاب به رهق) محركة، أي: نشاط (فاحتضر) أي: حضره الموت (فقالت له أمه: يا بني توصي بشيء؟ قال: نعم، خاتمي لا تسلبينه فإن فيه ذكر الله تعالى، فلعل الله يرحمني، فلما دفن رئي في المنام، فقال: أخبروا أمي أن الكلمة قد نفعتني وأن الله قد غفر لي) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله .

(ومرض أعرابي فقيل له: إنك تموت، فقال: أين يذهب بي؟ فقالوا: إلى الله تعالى، قال: فما كراهتي أن أذهب إلى من لا يرى الخير إلا منه) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله (وقال) أبو محمد (المعتمر بن سليمان) البصري، ثقة، مات سنة سبع وثمانين وقد تجاوز الثمانين، روى له الجماعة (قال أبي) سليمان بن طرخان التيمي، نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة عابد مات سنة ثلاث وأربعين وهو ابن سبع وتسعين، روى له الجماعة (لما حضرته الوفاة: يا معتمر، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله -عز وجل- وأنا حسن الظن به) رواه أبو نعيم في الحلية، عن عابد بن حامد بن جبلة، حدثنا ابن إسحاق، قال: سمعت سوار بن عبد الله قال: سمعت المعتمر يقول: قال أبي، فذكره .

(وكانوا يستحبون أن يذكر للعبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن الظن بربه) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله، عن إبراهيم النخعي بلفظ: أن يلقنوا العبد بمحاسن عمله، ورواه أيضا محمود بن محمد في كتاب المتفجعين، ومما يليق إيراده في الباب ما رواه الشيخان عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل وفاته بثلاث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن وزاد: فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال تعالى: وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين وروى ابن عساكر من حديث أنس: لا يموتن أحدكم حتى يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمنه الجنة، وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود قال: والله الذي لا إله غيره لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه، وروى ابن المبارك وأحمد والطبراني من حديث معاذ: إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له، قلنا نعم يا رسول الله. قال: فإن الله يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم، يا ربنا، فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي.

وروى ابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أبي غالب صاحب أبي أمامة، قال: كنت بالشام، فنزلت على رجل من قيس من خيار الناس فأتيته، وله ابن أخ مخالف له يأمره وينهاه ويضربه فلا يطيعه، فمرض الفتى، فبعث إلى عمه فأبى أن يأتيه فأتيته أنا به حتى أدخلته، فأقبل عليه يشتمه ويقول: أي، عدو الله، ألم تفعل كذا، قال: أرأيت أي عم، لو أن الله دفعني إلى والدتي ما كانت صانعة بي؟ قال: كانت والله تدخلك الجنة، قال: فوالله، لله أرحم بي من والدتي، فقبض الفتى ودفنه عمه، فلما سوى اللبن سقطت منه لبنة فوثب عمه فتأخر قلت: ما شأنك؟ قال: ملئ قبره نورا وفسح له مد البصر .

وروى ابن أبي الدنيا فيه والبيهقي في الشعب، عن حميد قال: كان لي ابن أخت مرهق، فمرض، فأرسلت إلي أمه فأتيتها، فإذا هي عند رأسه تبكي، فقال: يا خال ما يبكيها؟ قلت: ما تعلم منك، قال: أليس إنما ترحمني؟ قلت: بلى، قال: فإن الله أرحم بي منها، فلما مات أنزلته القبر مع غيري فذهبت أسوي لبنة فاطلعت في اللحد، فإذا هو مد بصري، فقلت: لصاحبي وأنت ما رأيت؟ قال: نعم، فليهنك ذاك، قال: فظننت أنه بالكلمة التي قالها .



* (فصل) *

في بيان ما يقرأ عند الميت، وما يقال إذا مات وغمض

روى ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والديلمي من حديث أبي الدرداء: ما من ميت يقرأ عند رأسه "يس" إلا هون الله عليه، وروى ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان من حديث معقل بن يسار: اقرءوا على موتاكم "يس". قال ابن حبان: أراد به من حضره الموت يقرأ عليه، وروى ابن أبي شيبة والمروزي عن جابر بن زيد قال: كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ [ ص: 279 ] عنده سورة الرعد، فإن ذلك يخفف عن الميت، وإنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه، وكان يقال قبل أن يموت الميت بساعة في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم اغفر لفلان بن فلان، وبرد عليه مضجعه، ووسع عليه في قبره، وأعطه الراحة بعد الموت، وألحقه بنبيه، وتول نفسه، وصعد روحه في أرواح الصالحين، واجمع بيننا وبينه في دار تبقى فيها الصحبة، ويذهب عنا فيها النصب واللغوب، ويصلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكرر ذلك حتى يقبض .

وروى ابن أبي شيبة والمروزي عن الشعبي، قال: كانت الأنصار يقرءون عند الميت سورة البقرة، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي بكرة قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة وهو في الموت فلما شق بصره، مد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده فأغمضه، فلما أغمضه صاح أهل البيت، فسكتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن النفس إذا خرجت تبعها البصر; وإن الملائكة تحضر الميت فيؤمنون على ما يقول أهل البيت، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- اللهم ارفع درجة أبي سلمة في المهديين، واخلفه في عقبه في الفائزين، واغفر لنا وله يوم الدين.

وروى الحاكم من حديث شداد بن أوس إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإن الملائكة تؤمن على دعاء أهل البيت، وروى المروزي عن بكر المزني، قال: إذا أغمضت ميتا فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله .




الخدمات العلمية