. بيان أقاويلهم عند موت الولد
حق على من مات ولده أو قريب من أقاربه أن ينزله في تقدمه عليه في الموت منزلة ما لو كانا في سفر فسبقه الولد إلى البلد الذي هو مستقره ووطنه فإنه لا يعظم عليه تأسفه لعلمه أنه لاحق به على القرب وليس بينهما إلا تقدم وتأخر .
وهكذا الموت فإن معناه السبق إلى الوطن إلى أن يلحق المتأخر وإذا اعتقد هذا قل جزعه وحزنه لا سيما وقد ورد في موت الولد من الثواب ما يعزى به كل مصاب قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : لأن أقدم سقطا أحب إلي من أن أخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل الله وإنما ذكر السقط تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وإلا فالثواب على قدر محل الولد من القلب .
وقال زيد بن أسلم توفي ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنا شديدا ، فقيل له : ما كان عدله عندك ؟ قال : ملء الأرض ذهبا قيل له : فإن لك من الأجر في الآخرة مثل ذلك وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار ، فقالت امرأة عند رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : أو اثنان ؟ قال : أو اثنان وليخلص الوالد الدعاء لولده عند الموت فإنه أرجى دعاء وأقربه إلى الإجابة .
وقف محمد بن سليمان على قبر ولده ، فقال : اللهم إني أصبحت أرجوك له ، وأخافك عليه فحقق رجائي وآمن خوفي .
ووقف أبو سنان على قبر ابنه فقال : اللهم إني قد غفرت له ما وجب لي عليه فاغفر له ما وجب لك عليه فإنك أجود وأكرم .
ووقف أعرابي على قبر ابنه فقال : اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من بري ، فهب له ما قصر فيه من طاعتك .
ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه عمر بن ذر بعد وضعه في لحده فقال : يا ذر لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك ، فليت شعري ماذا قلت ، وماذا قيل لك ، ثم قال : اللهم إن هذا ذر متعتني به ما متعتني ووفيته أجله ورزقه ولم تظلمه ، اللهم وقد كنت ألزمته طاعتك وطاعتي ، اللهم ما وعدتني عليه من الأجر في مصيبتي فقد وهبت له ذلك فهب لي عذابه ولا تعذبه .
فأبكى الناس ، ثم قال عند انصرافه : ما علينا بعدك من خصاصة يا ذر ، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة فلقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك ونظر رجل إلى امرأة بالبصرة ، فقال : ما رأيت مثل هذه النضارة ، وما ذاك إلا من قلة الحزن ، فقالت : يا عبد الله إني لفي حزن ما يشركني فيه أحد ، قال : فكيف؟ قالت: إن زوجي ذبح شاة في يوم عيد الأضحى وكان لي صبيان مليحان يلعبان فقال أكبرهما للآخر : أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة ؟ قال : نعم فأخذه وذبحه وما شعرنا به إلا متشحطا في دمه ، فلما ارتفع الصراخ هرب الغلام فلجأ إلى جبل فرهقه ذئب فأكله ، وخرج أبوه يطلبه فمات عطشا من شدة الحر ، قالت: فأفردني الدهر كما ترى .
فأمثال هذه المصائب ينبغي أن تتذكر عند موت الأولاد ليتسلى بها عن شدة الجزع ، فما من مصيبة إلا ويتصور ما هو أعظم منها ، وما يدفعه الله في كل حال فهو الأكثر .