الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أقاويلهم عند موت الولد .

حق على من مات ولده أو قريب من أقاربه أن ينزله في تقدمه عليه في الموت منزلة ما لو كانا في سفر فسبقه الولد إلى البلد الذي هو مستقره ووطنه فإنه لا يعظم عليه تأسفه لعلمه أنه لاحق به على القرب وليس بينهما إلا تقدم وتأخر .

وهكذا الموت فإن معناه السبق إلى الوطن إلى أن يلحق المتأخر وإذا اعتقد هذا قل جزعه وحزنه لا سيما وقد ورد في موت الولد من الثواب ما يعزى به كل مصاب قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : لأن أقدم سقطا أحب إلي من أن أخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل الله وإنما ذكر السقط تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وإلا فالثواب على قدر محل الولد من القلب .

وقال زيد بن أسلم توفي ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنا شديدا ، فقيل له : ما كان عدله عندك ؟ قال : ملء الأرض ذهبا قيل له : فإن لك من الأجر في الآخرة مثل ذلك وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار ، فقالت امرأة عند رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : أو اثنان ؟ قال : أو اثنان وليخلص الوالد الدعاء لولده عند الموت فإنه أرجى دعاء وأقربه إلى الإجابة .

وقف محمد بن سليمان على قبر ولده ، فقال : اللهم إني أصبحت أرجوك له ، وأخافك عليه فحقق رجائي وآمن خوفي .

ووقف أبو سنان على قبر ابنه فقال : اللهم إني قد غفرت له ما وجب لي عليه فاغفر له ما وجب لك عليه فإنك أجود وأكرم .

ووقف أعرابي على قبر ابنه فقال : اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من بري ، فهب له ما قصر فيه من طاعتك .

ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه عمر بن ذر بعد وضعه في لحده فقال : يا ذر لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك ، فليت شعري ماذا قلت ، وماذا قيل لك ، ثم قال : اللهم إن هذا ذر متعتني به ما متعتني ووفيته أجله ورزقه ولم تظلمه ، اللهم وقد كنت ألزمته طاعتك وطاعتي ، اللهم ما وعدتني عليه من الأجر في مصيبتي فقد وهبت له ذلك فهب لي عذابه ولا تعذبه .

فأبكى الناس ، ثم قال عند انصرافه : ما علينا بعدك من خصاصة يا ذر ، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة فلقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك ونظر رجل إلى امرأة بالبصرة ، فقال : ما رأيت مثل هذه النضارة ، وما ذاك إلا من قلة الحزن ، فقالت : يا عبد الله إني لفي حزن ما يشركني فيه أحد ، قال : فكيف؟ قالت: إن زوجي ذبح شاة في يوم عيد الأضحى وكان لي صبيان مليحان يلعبان فقال أكبرهما للآخر : أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة ؟ قال : نعم فأخذه وذبحه وما شعرنا به إلا متشحطا في دمه ، فلما ارتفع الصراخ هرب الغلام فلجأ إلى جبل فرهقه ذئب فأكله ، وخرج أبوه يطلبه فمات عطشا من شدة الحر ، قالت: فأفردني الدهر كما ترى .

فأمثال هذه المصائب ينبغي أن تتذكر عند موت الأولاد ليتسلى بها عن شدة الجزع ، فما من مصيبة إلا ويتصور ما هو أعظم منها ، وما يدفعه الله في كل حال فهو الأكثر .

التالي السابق


(بيان أقاويلهم عند موت الولد)

أعم من أن يكون ذكرا أو أنثى، اعلم أنه (حق على من مات ولده أو قريب من أقاربه أن ينزله في تقدمه عليه في الموت منزلة ما لو كان في سفر فسبقه الولد إلى البلد الذي هو مستقره ووطنه فإنه لا يعظم عليه تأسفه) ولا يشتد به حزنه (لعلمه بأنه لاحق به على القرب وليس بينهما إلا تقدم وتأخر) فتقدم هذا وتأخر هذا (وهكذا الموت فإن معناه السبق إلى الوطن إلى أن يلحق المتأخر) وهذا معنى قول داود الطائي لمن طلب منه النصيحة: عسكر الموتى ينتظرونك (وإذا اعتقد هذا قل جزعه و) سكن (حزنه) .

قال صاحب كتاب المتفجعين، حدثنا عبد الله بن الهيثم، حدثنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء قال: أتى الحسن رجلا يعزيه عن ابنه فرأى الجزع قد بلغ منه، فقال: كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم قال فهبها غيبة غابها عنك، فكأنك عليه قدمت (لا سيما وقد ورد في موت الولد من التراب ما تعزي به كل مصاب قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لأن أقدم سقطا أحب إلي من أن أخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل الله) أي: بعد موتي; وذلك لأن الوالد إذا مات ولده قبله يكون أجر مصابه بفقده في ميزان الأب، وإذا مات الوالد قبله يكون أجر المصيبة في ميزان الابن، وهذه تسلية عظيمة في موت الأولاد، وفيه رد على العز بن عبد السلام في ذهابه إلى أنه لا أجر في المصيبة لأنها ليست من كسب العبد، بل في الصبر عليها .

قال العراقي: لم أجد فيه ذكر مائة فارس، وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة: لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي، انتهى. قلت: بل روي ذلك من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميدي مرسلا بلفظ، لأن أقدم سقطا أحب إلي من مائة مستلثم. رواه كذلك أبو عبيد في الغريب، والبيهقي في الشعب، والمستلثم المتسلح، وحديث أبي هريرة المذكور رواه أيضا أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف هو وابن ماجه من طريق يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة، ويزيد بن عبد الملك ضعيف قاله الذهبي في الكاشف (وإنما ذكر السقط تنبيها بالأدنى على الأعلى، وإلا فالثواب على قدر محل الولد من القلب) والسقط بالتثليث الولد يسقط قبل تمامه (وقال زيد بن أسلم) العدوي مولاهم أبو عبد الله المدني العالم الثقة، روى له الجماعة (توفي ابن داود عليه السلام فحزن عليه حزنا شديدا، فقيل له: ما كان عدله عندك؟ قال: ملء الأرض ذهبا قيل له: فإن لك الأجر في الآخرة مثل ذلك) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء (وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار، فقالت امرأة) كانت جالسة (عند رسول، الله صلى الله عليه وسلم: أو اثنان؟ قال: أو اثنان) .

رواه مسلم وابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة، قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان. وعند ابن حبان أيضا: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم، وفي المتفق عليه: لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم. وقد تقدم في كتاب النكاح (وليخلص الوالد الدعاء لولده بعد الموت) فإنه أرجى دعاء وأقربه إلى الإجابة (وقف محمد بن سليمان) بن علي بن عبد الله بن عباس أحد الأشراف وهو أخو جعفر وعبد الله وعلي وإسحاق (على قبر ولده، فقال: اللهم إني أصبحت أرجوك له، وأخافك عليه فحقق رجائي وآمن خوفي) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووقف أبو سنان) ضرار بن مرة [ ص: 360 ] الشيباني الكوفي، مات سنة اثنين وثلاثين ومائة، روى له مسلم والترمذي والنسائي (على قبر ابنه فقال: اللهم إني قد غفرت له ما وجب لي عليه فاغفر له ما وجب لك عليه فإنك أجود وأكرم) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووقف أعرابي على قبر ابنه فقال: اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من بري، فهب له ما قصر فيه من طاعتك) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه عمر بن ذر) بن عبد الله بن ذر الهمداني الكوفي العابد (بعد ما وضع في لحده فقال: يا ذر لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ماذا قلت، وماذا قيل لك، ثم قال: اللهم إن هذا ذر متعتني به ما متعتني ووفيته أجله ورزقه ولم تظلمه، اللهم وقد كنت ألزمته طاعتك وطاعتي، اللهم وما وعدتني عليه من الأجر في مصيبتي فقد وهبت له ذلك فهب لي عذابه ولا تعذبه، فأبكى الناس، ثم قال عند انصرافه: ما علينا بعدك من خصاصة يا ذر، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة فلقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا محمد بن كناسة، قال: لما مات ذر بن عمر الهمداني، وكان موته فجأة جاء أباه أهل بيته يبكونه فقال: ما لكم إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلما وضعه في قبره قال: رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارا، ولقد كنت عليك حدبا، وما بي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهب لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع ومحشره لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري يا ذر ما قيل لك! وماذا قلت، ثم قال: اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني فلا تعرفه قبيحا، وتجاوز عنه فإنك أرحم مني به، اللهم إني قد وهبت لذر إساءته إليك فإنك أجود مني وأكرم، فلما ذهب لينصرف قال: يا ذر انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، قال: وحدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا سفيان بن عيينة ح، وحدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، حدثنا سفيان بن عيينة، قال: لما مات ذر بن عمر بن ذر قال عمر بن ذر: شغلنا يا ذر الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ماذا قلت، وماذا قيل لك، اللهم إني قد وهبت لذر ما فرط فيه من حقي فهب له ما قصر فيه من حقك. قال: وحدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا عبد الصمد بن يزيد سمعت عمرو بن جرير الهجري صاحب محمد بن جابر يقول: لما مات ذر بن عمر بن ذر قال أصحابه: الآن يضيع الشيخ لأنه كان بارا بوالديه، فسمعهما الشيخ فبقي متعجبا أني أضيع والله حي لا يموت، فسكت حتى واراه التراب، ثم وقف على قبره ليسمعهم، فقال: رحمك الله يا ذر وما علينا بعدك من خصاصة، وما إلى أحد بعد الله حاجة، وما يسرني أن أكون المقدم قبلك، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك، لقد شغلني الحزن بك عن الحزن عليك، فيا ليت شعري ماذا قيل لك، وماذا قلت يعني منكرا ونكيرا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم إني قد وهبت حقي فيما بيني وبينه له، اللهم فهب حقك فيما بينك وبينه له. قال: فبقي القوم متعجبين مما جاء منهم، ومما جاء منه من الرضا عن الله والتسليم له (ونظر رجل إلى امرأة بالبصرة، فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن، فقالت: يا عبد الله إني لفي حزن ما يشركني فيه أحد، قال: فكيف قالت: إن زوجي ذبح شاة في يوم عيد الأضحى وكان لي صبيان مليحان يلعبان فقال أكبرهما للآخر: أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة؟ قال: نعم فأخذه وذبحه وما شعرنا به إلا متشحطا في دمه، فلما ارتفع الصراخ هرب الغلام فلجأ إلى جبل فرهقه ذئب فأكله، وخرج أبوه يطلبه فمات عطشا من شده الحر، قالت: فأفردني الدهر) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء، ويشبه هذه القصة، ما رواه صاحب كتاب المتفجعين عن حبش بن موسى، قال: أخبرنا المدائني، قال: حدثني رجل من أهل الجزيرة من الأزد، قال: كان رجل يجالسنا بأحسن مجالسة فربما أخذته غشية حتى يغلب، ثم يفيق فقلت له يوما: ما هذا الذي نراه بك؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل، وكان لي ابن من أنفس الأولاد، فلما استعرض [ ص: 361 ] يحيى بن محمد بن علي أهل الموصل فقتلهم، هربت أنا وابني من جبال الموصل فلجأنا إلى غار فيه فأقمنا حتى بلغ الجوع منا، فقلت لابني: لو خرجت فالتمست لنا زادا، وأخفيت شخصك فخرج من الغار فأبطأ عني يومين فلما كان اليوم الثالث سمعت حس رجل عليه خف يطأ به وطأ شديدا فقلت: هذا رجل من المسودة من أصحاب يحيى بن محمد قد ظفر بابني، وقد جاء به ليدله علي فانتضيت سيفي، فلما أدخل رجليه ضربتهما بسيفي فقطعتهما فسقط، وهو يقول: قتلتني يا أبت فأقام ساعة ينزف، ثم مات، وكان ابني في خروجه من الغار وجد خفا ملقى فلبسه فكلما ذكرته أصابني هذا الذي ترون، وقال أيضا: حدثنا عبيد الله بن محمد، حدثنا أبو عبد الله بن الأعرابي أن أعرابيا من أعراب بني سعد حبس في دوار سجن اليمامة في تهمة فمات في السجن، فدفع إلى أمه فلما نظرت إليه قالت: يا بني خرجت من دار البلاء إلى دار البلى (فأمثال هذه المصائب ينبغي أن تتذكر عند موت الأولاد ليتسلى بها عن شدة الجزع، فما من مصيبة إلا ويتصور ما هو أعظم منها، وما يدفعه الله في كل حال فهو الأكثر) وأحسن ما يتسلى به قول بعضهم:


أرى ولد الفتى ضررا عليه لقد سعد الذي أضحى عقيما فإما أن يخلفه عدوا
وإما أن يربيه يتيما وإما أن يوافيه حمام
فيبقى حزنه أبدا مقيما






الخدمات العلمية