الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له في قبره سبعون ذراعا ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون في ماذا أنزلت فإن له معيشة ضنكا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال عذاب الكافر في قبره : يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين تسعة ؟ وتسعون حية لكل حية تسعة رءوس يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد على الخصوص فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات فإن لها أصولا معدودة ، ثم تتشعب منها فروع معدودة ، ثم تنقسم فروعها إلى أقسام وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات فالقوي منها يلدغ لدغ التنين والضعيف يلدغ لدغ العقرب وما بينهما يؤذي إيذاء الحية وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها ، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم .

التالي السابق


(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب) أي: يوسع (له قبره سبعين ذراعا) وفي بعض النسخ في قبره سبعون ذراعا (ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون في ماذا أنزلت فإن له معيشة ضنكا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال في عذاب الكافر في قبره: يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين؟ تسع وتسعون حية لكل حية سبعة رءوس يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون) وفي لفظ إلى يوم القيامة قال العراقي: رواه ابن حبان اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن أبي الدنيا في الموت والحكيم في النوادر وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والآجري وابن منده، وروى أحمد وأبو يعلى والبيهقي في عذاب القبر والآجري من حديث أبي سعيد الخدري: يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تلدغه حتى تقوم الساعة، وروى عبد الرازق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه البيهقي في عذاب القبر من حديث أبي سعيد الخدري في قوله: معيشة ضنكا قال: عذاب القبر، ولفظ ابن أبي حاتم: ضغطة القبر، ولفظ عبد الرزاق قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وروى البزار وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة المعيشة الضنك أن يسلط عليه تسع وتسعون حية تنهش في لحمه حتى تقوم الساعة، وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم من وجه آخر من حديث أبي هريرة قال: معيشة ضنكا عذاب القبر، وقد روي عن ابن أبي مسعود وأبي صالح والربيع مثله، وروى ابن منده من حديث أبي هريرة: المؤمن في قبره في روضة خضراء الحديث إلى قوله: ليلة البدر، وروى علي بن معبد عن معاذ عن عائشة قالت: إن كان مؤمنا فسح له في قبره أربعون ذراعا (ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد على الخصوص فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات فإن لها أصولا معدودة، ثم تتشعب منها فروع معدودة، ثم تنقسم فروعها فأقسام تلك الصفات بأعيانها هي المهلكات وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات فالقوي منها يلدغ لدغ التنين والضعيف يلدغ لدغ العقرب وما بينهما يؤذي إيذاء الحية وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنو النبوة فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم) .

قال المصنف في آخر كتاب الجواهر، وأما قولك: إن المشهور من [ ص: 405 ] عذاب القبر التألم بالنيران والعقارب والحيات فهذا صحيح وهو كذلك لكني أراك عاجزا عن فهمه ودرك سره وحقيقته إلا أني أنبهك على أنموذج منه تشويقا لك إلى معرفة الحقائق والتشمير للاستعداد لأمر الآخرة فإنه نبأ عظيم أنتم عنه معرضون; فقد قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن في قبره في روضة خضراء فذكر الحديث بتمامه، ثم قال: فانظر إلى هذا الحديث واعلم أن هذا حق على هذا الوجه شاهده أهل البصائر ببصيرة أوضح من البصر الظاهر والجاهل ينكر ذلك إذ يقول: أنا أنظر في قبره فلا أرى ذلك أصلا فليعلم الجاهل أن هذا التنين ليس خارجا عن ذات الميت أعني ذات روحه لا ذات جسده فإن الروح هي التي تنعم وتتألم بل كان معه قبل موته متمكنا من باطنه لكنه لم يكن يحس بلدغه لخدر كان فيه من غلب الشهوات فأحس بلدغه بعد الموت وليتحقق أن هذا التنين مركب من صفاته وعدد رءوسه بعدد أخلاقه الذميمة وشهواته لمتاع الدنيا فأصل هذا التنين حب الدنيا وتتشعب عنه رءوس بعدد ما يتشعب من حب الدنيا من الحسد والحقد والكبر والرياء والشره والمكر والخداع وحب الجاه والمال والعداوة والبغضاء وأصل ذلك معلوم بالبصيرة وكذا كثرة رءوسه اللادغة وأما انحصار عددها في تسعة وتسعين إنما يوقف عليه بنور النبوة فقط فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكافر لا بمجرد جهله بالكفر بل لما يدعوه إليه الكفر كما قال تعالى: ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وقال تعالى: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها الآية، وهذا التنين لو كان كما تظنه خارجا عن ذات الميت لكان أهون; إذ ربما ينصرف عنه التنين أو ينحرف هو عنه لا بل هو متمكن من صميم فؤاده يلدغه لدغا أعظم مما تفهمه من لدغ التنين وهو بعينه صفاته التي كانت معه في حياته كما أن التنين الذي يلدغ قلب العاشق إذا باع جاريته هو بعينه العشق الذي كان مستكنا في قلبه استكنان النار في الحجر وهو غافل عنه قد انقلب ما كان سبب لذته سبب ألمه، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم: إنما هي أعمالكم ترد عليكم وسر قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا بل سر قوله تعالى: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم أي: أن الجحيم في باطنكم فاطلبوها بعلم اليقين لترونها قبل أن تدركوها بعين اليقين بل هو سر قوله تعالى: يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ولم يقل: إنها ستحيط بل قال: هي محيطة وقوله: إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ولم يقل: إنها ستحيط بهم وهو معنى قوله: إن الجنة والنار مخلوقتان، وقد أنطق الله لسانه بالحق، ولعله لم يطلع على سر ما يقولونه فإنك لم تفهم بعض معاني القرآن كذلك فليس لك نصيب من القرآن إلا في قشوره كما ليس للبهيمة نصيب من البر إلا في قشوره الذي هو التبن، والقرآن غذاء الخلق كلهم على اختلاف أصنافهم ولكن اغتذاؤهم به على قدر درجاتهم وفي كل غذاء مخ ونخالة وتبن، وحرص الحمار على التبن أشد منه على الخبز المتخذ من اللب فأنت شديد الحرص على أن لا تفارق درجة البهيمة ولا أن ترقى إلى درجة الإنسانية فضلا عن الملائكة فدونك الانسراح في رياض القرآن ففيه متاع لكم ولأنعامكم .




الخدمات العلمية