الباب الثامن .
: فيما عرف من أحوال الموتى بالمكاشفة في المنام .
اعلم أن أنوار البصائر المستفادة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن مناهج الاعتبار تعرفنا أحوال الموتى على الجملة وانقسامهم إلى سعداء وأشقياء ولكن حال زيد وعمرو بعينه فلا ينكشف بذلك أصلا ؛ فإنا إن عولنا على إيمان زيد وعمرو فلا ندري على ماذا مات وكيف ختم له وإن عولنا على صلاحه الظاهر فالتقوى محله القلب وهو غامض يخفى على صاحب التقوى فكيف على غيره فلا حكم لظاهر الصلاح دون التقوى الباطن قال الله تعالى : إنما يتقبل الله من المتقين فلا يمكن معرفة حكم زيد وعمرو إلا بمشاهدته ومشاهدة ما يجري عليه ، وإذا مات فقد تحول من عالم الملك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت فلا يرى بالعين الظاهرة وإنما يرى بعين أخرى خلقت تلك العين في قلب كل إنسان ولكن الإنسان جعل عليها غشاوة كثيفة من شهواته وأشغاله الدنيوية فصار لا يبصر بها ولا يتصور أن يبصر بها شيئا من عالم الملكوت ما لم تنقشع تلك الغشاوة عن عين قلبه .
ولما كانت الغشاوة منقشعة عن أعين الأنبياء عليهم السلام فلا جرم نظروا إلى الملكوت وشاهدوا عجائبه ، والموتى في عالم الملكوت فشاهدوهم وأخبروا ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضغطة القبر في حق وفي حق سعد بن معاذ زينب ابنته وكذلك حال أبي جابر لما استشهد إذ أخبره أن الله أقعده بين يديه ليس بينهما ستر ومثل هذه المشاهدة لا مطمع فيها لغير الأنبياء والأولياء الذين تقرب درجتهم منهم .
إنما الممكن من أمثالنا مشاهدة أخرى ضعيفة إلا أنها أيضا مشاهدة نبوية وأعني بها المشاهدة في المنام وهي من أنوار النبوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهو أيضا انكشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب ؛ فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الصالح الصادق ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه ؛ فكان ما يراه أضغاث أحلام ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهارة عند النوم لينام طاهرا وهو إشارة إلى طهارة الباطن أيضا فهو الأصل وطهارة الظاهر بمنزلة التتمة والتكملة لها ، ومهما صفا الباطن انكشف في حدقة القلب ما سيكون في المستقبل كما انكشف دخول مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم حتى نزل قوله تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق وقلما يخلوا الإنسان عن منامات دلت على أمور فوجدها صحيحة ، وبدائع فطرة الآدمي ، وهو من أوضح الأدلة على عالم الملكوت ، والخلق غافلون عنه كغفلتهم عن سائر عجائب القلب وعجائب العالم ، والقول في حقيقة الرؤيا من دقائق علوم المكاشفة ، فلا يمكن ذكره علاوة على علم المعاملة ، ولكن القدر الذي يمكن ذكره ههنا مثال يفهمك المقصود ، وهو أن تعلم أن القلب مثاله مثال مرآة تتراءى فيها الصور وحقائق الأمور وأن كل ما قدره الله تعالى من ابتداء خلق العالم إلى آخره مسطور ومثبت في خلق خلقه الله تعالى يعبر عنه تارة باللوح ، وتارة بالكتاب المبين ، وتارة بإمام مبين كما ورد في القرآن فجميع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه ومنقوش عليه نقشا لا يشاهد بهذه العين ، ولا تظنن أن ذلك اللوح من خشب أو حديد أو عظم وأن الكتاب من كاغد أو رق . بل ينبغي أن تفهم قطعا أن لوح الله لا يشبه لوح الخلق وكتاب الله لا يشبه كتاب الخلق كما أن ذاته وصفاته لا تشبه ذات الخلق وصفاتهم ، بل إن كنت تطلب له مثالا يقربه إلى فهمك فاعلم أن ثبوت المقادير في اللوح يضاهي ثبوت كلمات القرآن وحروفه في دماغ حافظ القرآن وقلبه ، فإنه مسطور فيه حتى كأنه حين يقرؤه ينظر إليه ولو فتشت دماغه جزءا جزءا لم تشاهد من ذلك الخط حرفا وإن كان ليس هناك خط يشاهد ولا حرف ينظر ، فمن هذا النمط ينبغي أن تفهم كون اللوح منقوشا بجميع ما قدره الله تعالى وقضاه واللوح في المثال كمرآة ظهر فيها الصور ، فلو وضع في مقابلة المرآة مرآة أخرى لكانت صورة تلك المرآة تتراءى في هذه إلا أن يكون بينهما حجاب فالقلب مرآة تقبل رسوم العلم ، واللوح مرآة رسوم العلم كلها موجودة فيها واشتغال ، القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح اللوح الذي هو من عالم الملكوت ، فإن هبت ريح حركت هذا الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت ويدوم وقد لا يدوم وهو الغالب ، وما دام متيقظا فهو مشغول بما تورده الحواس عليه من عالم الملك والشهادة ، وهو حجاب عن عالم الملكوت . والرؤيا ومعرفة الغيب في النوم من عجائب صنع الله تعالى
أن تركد الحواس عليه فلا تورد على القلب ، فإذا تخلص منه ومن الخيال وكان صافيا في جوهره ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ فوقع في قلبه شيء مما في اللوح كما تقع الصورة من مرآة في مرآة أخرى إذا ارتفع الحجاب بينهما إلا أن النوم مانع سائر الحواس عن العمل ، وليس مانعا للخيال عن عمله وعن تحركه فما يقع في القلب يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه ، وتكون المتخيلات أثبت في الحفظ من غيرها فيبقى الخيال في الحفظ ، فإذا انتبه لم يتذكر إلا الخيال ، فيحتاج المعبر أن ينظر إلى هذا الخيال حكاية ؛ أي : معنى من المعاني فيرجع إلى المعاني بالمناسبة التي بين المتخيل والمعاني ، وأمثلة ذلك ظاهرة عند من نظر في علم التعبير ، ويكفيك مثال واحد وهو أن رجلا قال ومعنى النوم لابن سيرين رأيت كأن بيدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال أنت مؤذن تؤذن قبل الصبح في رمضان قال : صدقت فانظر أن روح الختم هو المنع ولأجله يراد الختم ، وإنما ينكشف للقلب حال الشخص من اللوح المحفوظ كما هو عليه وهو كونه مانعا للناس من الأكل والشرب ولكن الخيال ألف المنع عند الختم بالخاتم فتمثله بالصورة الخيالية التي تتضمن روح المعنى ولا يبقى في الحفظ إلا الصورة الخيالية .
فهذه نبذة يسيرة من بحر علم الرؤيا الذي لا تنحصر عجائبه وكيف لا وهو أخو الموت وإنما الموت هو عجب من العجائب ؛ وهذا لأنه يشبهه من وجه ضعيف أثر في كشف الغطاء عن عالم الغيب حتى صار النائم يعرف ما سيكون في المستقبل ، فماذا ترى في الموت الذي يخرق الحجاب ويكشف الغطاء بالكلية حتى يرى الإنسان عند انقطاع النفس من غير تأخير نفسه إما محفوفة بالأنكال والمخازي والفضائح نعوذ بالله من ذلك وإما مكنوفا بنعيم مقيم وملك كبير لا آخر له وعند هذا يقال للأشقياء وقد انكشف الغطاء : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، ويقال أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون وإليهم الإشارة بقوله تعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فأعلم العلماء وأحكم الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله ، ولا اختلج به ضميره ، فلو لم يكن للعاقل هم وغم إلا الفكرة في خطر تلك الحال أن الحجاب عماذا يرتفع ؟ وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة أم سعادة دائمة ؟ لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر .
والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وبأسبابنا وذريتنا بل بأعضائنا وسمعنا وبصرنا مع أنا نعلم مفارقة جميع ذلك يقينا ولكن أين من ينفث روح القدس في روعه فيقول له : ما قال لسيد النبيين فلا جرم لما كان ذلك مكشوفا له بعين اليقين كان في الدنيا كعابر سبيل لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ولم يخلف دينارا ولا درهما ولم يتخذ حبيبا ولا خليلا ، نعم ، قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن فبين أن خلة الرحمن تخللت باطن قلبه ، وأن حبه تمكن من حبة قلبه فلم يترك فيه متسعا لخليل ولا لحبيب وقد قال لأمته : أحبب من أحببت فإنك مفارقه ، وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فإنما أمته من اتبعه وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة ؛ فإنه ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة ، فبقدر ما أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة ، فقد سلكت سبيله الذي سلكه ، وبقدر ما سلكت سبيله فقد اتبعته وبقدر ما اتبعته ، فقد صرت من أمته وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله ورغبت عن متابعته والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى فلو خرجت من مكمن الغرور وأنصفت نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت أنك من حين تصبح إلى حين تمسي لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك ولا تسكن إلا لعاجل الدنيا ثم تطمع أن تكون غدا من أمته وأتباعه وما أبعد ظنك وما أبرد طمعك ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ولنرجع إلى ما كنا فيه وبصدده فقد امتد عنان الكلام إلى غير مقصده ولنذكر الآن من المنامات الكاشفة لأحوال الموتى ما يعظم الانتفاع به إذ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وليس ذلك إلا المنامات .