وقال في أبو هريرة وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أنه يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله تعالى أن قوله عز وجل : فذلك حين يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا فكيف أنت يا مسكين في يوم ترى صحيفتك خالية عن حسنات طال فيها تعبك فتقول : أين حسناتي ؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك ، وترى صحيفتك مشحونة بسيئات طال في الصبر عنها نصبك واشتد بسبب الكف عنها عناؤك فتقول : يا رب ، هذه سيئات ما قارفتها قط ، فيقال : هذه سيئات القوم الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم في المبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة وسائر أصناف المعاملة . يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول كوني : ترابا
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بما هو دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات ، فاتقوا الظلم ما استطعتم ، فإن العبد ليجيء يوم القيامة بأمثال الجبال من الطاعات فيرى أنهن سينجينه فما يزال عبد يجيء فيقول : رب إن فلانا ظلمني بمظلمة ، فيقول : امح من حسناته ، فما يزال كذلك حتى لا يبقى من حسناته شيء ، وإن مثل ذلك مثل سفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم فحطبوا فلم يلبثوا أن أعظموا نارهم وصنعوا ما أرادوا وكذلك الذنوب ولما نزل قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير : يا رسول الله ، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : نعم ؛ ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه ، قال الزبير : والله إن الأمر لشديد فأعظم بشدة يوم لا يسامح فيه بخطوة ولا يتجاوز فيه عن لطمة ولا عن كلمة حتى ينتقم للمظلوم من الظالم ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنس ولا لأحد من أهل النار إن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقتصه منه حتى اللطمة ، قلنا : وكيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غبرا بهما ؟ فقال : بالحسنات والسيئات لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقتصه منه ، فاتقوا الله عباد الله ومظالم العباد بأخذ أموالهم . يحشر الله العباد عراة غبرا بهما ، قال : قلنا : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم ربهم تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان لا ينبغي ،
والتعرض لأعراضهم وتضييق قلوبهم وإساءة الخلق في معاشرتهم ، فإن ما بين العبد وبين الله خاصة فالمغفرة إليه أسرع ، ومن فليكثر من حسناته ليوم القصاص ويسر ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الإخلاص بحيث لا يطلع عليه إلا الله فعساه يقربه ذلك إلى الله تعالى فينال به لطفه الذي ادخره لأحبابه المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم كما روي عن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر ما يضحكك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء ، فقال الله تعالى للطالب : كيف تصنع ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب يتحمل عني من أوزاري ، قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : إن ذلك ليوم عظيم ، يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم ، قال : فقال الله للطالب : ارفع رأسك فانظر في الجنان ، فرفع رأسه ، فقال : يا رب أرى مدائن من فضة مرتفعة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا ؟ أو لأي صديق هذا ؟ أو لأي شهيد هذا ؟ قال : لمن أعطاني الثمن ، قال : يا رب ، ومن يملك ثمنه ؟! قال : أنت تملكه ، قال وما : هو ؟ قال : عفوك عن أخيك ، قال : يا رب إني قد عفوت عنه ، قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أنس فإن الله يصلح بين المؤمنين وهذا تنبيه على أن ذلك إنما ينال بالتخلق بأخلاق الله وهو إصلاح ذات البين وسائر الأخلاق . اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ؛
فتفكر الآن في نفسك إن خلت صحيفتك عن المظالم أو تلطف لك حتى عفا عنك وأيقنت بسعادة الأبد كيف يكون سرورك في منصرفك من مفصل القضاء ، وقد خلع عليك خلعة الرضا وعدت بسعادة ليس بعدها شقاء وبنعيم لا يدور بحواشيه الفناء وعند ذلك طار قلبك سرورا وفرحا وابيض وجهك واستنار وأشرق كما يشرق القمر ليلة البدر ، فتوهم تبخترك بين الخلائق رافعا رأسك خاليا عن الأوزار ظهرك ونضرة نسيم النعيم وبرد الرضا يتلألأ من جبينك ، وخلق الأولين والآخرين ينظرون إليك وإلى حالك ويغبطونك في حسنك وجمالك والملائكة يمشون بين يديك ومن خلفك وينادون على رءوس الأشهاد : هذا فلان بن فلان رضي الله عنه وأرضاه وقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا أفترى أن هذا المنصب ليس بأعظم من المكانة التي تنالها في قلوب الخلق في الدنيا بريائك ومداهنتك وتصنعك وتزينك ، فإن كنت تعلم أنه خير منه بل لا نسبة له إليه فتوسل إلى إدراك هذه الرتبة بالإخلاص الصافي والنية الصادقة في معاملتك مع الله ، فلن تدرك ذلك إلا به .
وإن تكن الأخرى والعياذ بالله بأن خرج من صحيفتك جريمة كنت تحسبها هينة وهي عند الله عظيمة فمقتك لأجلها ، فقال : عليك لعنتي يا عبد السوء ، لا أتقبل منك عبادتك فلا تسمع هذا النداء إلا ويسود وجهك ، ثم تغضب الملائكة لغضب الله تعالى فيقولون : وعليك لعنتنا ولعنة الخلائق أجمعين ، وعند ذلك تنثال إليك الزبانية وقد غضبت لغضب خالقها فأقدمت عليك بفظاظتها وذعارتها وصورها المنكرة فأخذوا بناصيتك يسحبونك على وجهك على ملأ الخلق وهم ينظرون إلى اسوداد وجهك وإلى ظهور خزيك وأنت تنادي بالويل والثبور وهم يقولون لك : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا وتنادي ، الملائكة ويقولون : هذا فلان بن فلان .
كشف الله عن فضائحه ومخازيه ولعنه بقبائح مساويه فشقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وربما يكون ذلك بذنب أذنبته خفية من عباد الله أو طلبا للمكانة في قلوبهم أو خوفا من الافتضاح عندهم ، فما أعظم جهلك إذ تحترز عن الافتضاح عند طائفة يسيرة من عباد الله في الدنيا المنقرضة ثم لا تخشى من الافتضاح العظيم في ذلك الملأ العظيم مع التعرض لسخط الله وعقابه الأليم والسياق بأيدي الزبانية إلى سواء الجحيم فهذه أحوالك وأنت لم تشعر بالخطر الأعظم وهو خطر الصراط .