فإن قال قائل: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية التي يحتجون بها؟ قيل له: علمه، والله على عرشه، وعلمه يحيط بهم. هكذا فسره أهل العلم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه. فما معنى:
هذا قول المسلمين. [ ص: 160 ]
وقال الشيخ في كتاب "الإبانة" : باب أبو عبد الله ابن بطة أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه. فأما قوله: الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه: وهو معكم فهو كما قالت العلماء: علمه. وأما قوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقه في كتاب الله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . واحتج الجهمي [بقول الله تعالى]: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، فقال: إن الله معنا وفينا. وقد فسر العلماء أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها: إن الله بكل شيء عليم .
فهؤلاء وأمثالهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وكل منهم له من المصنفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف وآثارهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حكوا إجماع السلف كما ترى.
الوجه الثاني
أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلها على طريقة واحدة، والتأويل الذي ذمه السلف والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراج كلام الله ورسوله عما دل عليه وبينه الله به. وقد حده طائفة [ ص: 161 ] بأنه صرف الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل. فقوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم ونحوها من الآيات ليس ظاهرها ولا مدلولها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين ممتزجا بهم، ولا إلى جانبهم متيامنا أو متياسرا، ونحو ذلك، لوجوه:
أحدها: أنه لم يقل أحد من أهل اللغة إن المعية تقتضي الممازجة والمخالطة، ولا توجب التيامن ولا التياسر ونحو ذلك من المعاني المنفية عن الله مع خلقه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنة المطلقة. الثاني: أنه حيث ذكر في القرآن لفظ المعية فإنه لم يدل على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، فليس معنى ذلك أن ذات المؤمنين ممتزجة بذاته.
وكذلك قال تعالى: والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، والمجاهد معهم ليست ذاته ممتزجة بذواتهم ولا مماسة لذواتهم. وقال تعالى: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، وليس المراد أن ذاته تمتزج بذواتهم ولا مماسة لها. وقال تعالى: وما آمن معه إلا قليل ، وقال تعالى: فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون . [ ص: 162 ]
وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعية أن يكون أحدهما حالا في الآخر ولا ممتزجا به ولا مختلطا به، فمن قال: إن ظاهر قوله: وهو معكم ونحو ذلك أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين وممتزجا بهم وحالا فيهم أو مماسا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادعى أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كذب على الله ورسوله بلا حجة ولا برهان.
وغاية ما يقال: أن كما في قول القائل: هذا فوق هذا، فإن "فوق" من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف إليه أو عن شماله، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشماله جميعا، بل أكثر ما يقتضي مطلق المكان، فإذا قدر أنه فوق المضاف إليه لم يكن هذا مخالفا لظاهر المعية. لفظ "مع" ظرف أو ظرف مكان، فيقتضي أن يكون المتعلق بهذا الظرف مكانا من المضاف إليه،
ومن قال: إنه لا بد في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنا أو متياسرا أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غلط غلطا بينا. وهذا كما أن قوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ليس ظاهره أن ذاته في السماوات والأرض، بل ظاهره أنه إله أهل السماء وإله أهل الأرض، فأهل السماء يألهونه، وأهل الأرض يألهونه.
وكذلك قوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض ليس ظاهره أن نفس الله في السماوات والأرض، فإنه لم يقل: "هو في السماوات والأرض"، بل [ ص: 163 ] قال: وهو الله في السماوات وفي الأرض ، فالظرف مذكور بعد جملة لا بعد مفرد، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، بخلاف قوله: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض وقوله: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ، فإنه لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسه.
وكذلك الأثر الذي يروى عن أنه قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ، فمن قال: إن هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفة الله، فإنه قال: "يمين الله في الأرض"، فقيده بكونه "في الأرض"، وهذا بين أنه ليس هو صفة الله. ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه"، والمشبه غير المشبه به، فقد صرح بأن المستلم له لم يصافح الله، وإنما هو مشبه بذلك. ابن عباس
الوجه الثالث أن يقال: إخبار الله في القرآن أنه مع عباده جاء عاما وخاصا، فالعام كقوله: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ، وقال: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى [ ص: 164 ] على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير . ففتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم.
وأما الخاص فكقوله: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، فهذا بين أنه ليس مع الفجار والظالمين، ولو كان بذاته في كل مكان لكان مخالفا لهذه الآية.
وكذلك قوله لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى ، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه.
وكقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، لا مع الكفار كأبي جهل وأمثاله.
فلو كانت المعية معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكان بذاته، لم يجز أن يكون في المعية تخصيص. فمن زعم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ظاهرها أن يكون في كل مكان فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلت على المصاحبة والمقارنة فهي في كل مكان بحسب ما دل عليه السياق. فلما كان في تلك الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، دل ذلك على أن من حكم المعية أنه [ ص: 165 ] عليم بكل شيء. وهنا لما كان السياق يدل على أن المقصود الإعانة والنصر دل على أن من حكم المعية النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني مصاحبك ومقارنك، وإذا كان كذلك اقتضى أني أعلم حالك، وقد يقتضي إذا أني أعينك وأنصرك على أعدائك.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: . وهذا وأمثاله بين أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا التأويل المتنازع فيه، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهر قوله: "اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا" وهو معكم يقتضي أن يكون الله ممتزجا بنا حالا في أجوافنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، وليس هذا مدلول لفظ المعية أصلا، فبطل ما قال. بل يقال:
الجواب الثاني
وهو أن قوله: وهو معكم يدل على نقيض قول الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما يتناوله الاسم الظاهر، واسمهم يتناول جميع ذاتهم وصفاتهم فأبعاضهم، وذلك يمتنع أن يكون في أحدهم شيء من غيره. فإذا كان هو معهم دل ذلك على أنه منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائره. بل قوله "رب الناس" "ملك [ ص: 166 ] الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغاير للناس مباين لهم، لأن الرب مغاير للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغاير لهم، ولمسمى "مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: "هذا فوق هذا" اقتضى أنه مغاير مباين لما هو فوقه ولنفس المسمى بلفظ فوقه، ولفظ "مع" هو من هذا الجنس ظرف من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرا مباينا له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن يقال: هو معه، وقد يجعل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: "هذا الحمل معي"، وقد يجعل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: "هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو مباين منفصل عنه، كما يقال: "هذه الغاشية معي"، وقد يقال: "سرنا البارحة والقمر معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال.
فعلم بذلك أن كونه وهو معكم لا ينفي أن يكون الرب مباينا لهم، ولا يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايته أن يكون بحيث هو مضاف إليه مما يسميه النحاة ظرفا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة، بل يكون لفظ "المعية" دل على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دل على خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنا ولا تياسرا.
وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحد، وهو المصاحبة والمقارنة والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحب له مفارق له"، وهو يقتضي مطلق المصاحبة والمقارنة لا نوعا منهم إلا بتفصيل وتخصيص.