الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملل، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملل، كما قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك أهل الاستقامة، ولزوم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عليه السلف، تمسكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف.

فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم، كما قال الله تعالى: ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ، والنصارى. غلوا فيهم حتى عبدوهم، كما قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق الآية .

واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، والنصارى قابلوهم، فجوزوا للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا.

وكذلك تقابلهم في سائر الأمور.

فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ووقروهم وعزروهم وأحبوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردوهم [ ص: 90 ] كما فعلت اليهود" ولا أطروهم ولا غلوا فيهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوزوا أن ينسخ الله، ولم يجوزوا لغيره أن ينسخ، فإن الله له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره.

وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية والعصمة الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ويركنون إلى الذين ظلموا، وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى لا على جهاد ولا جمعة ولا أعياد إلا أن يكون معصوما، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في طاعة من لا وجود له.

فالأولون يدخلون في المحرمات، وهؤلاء يتركون واجبات الدين وشرائع الإسلام، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالما، وقد يكون كاملا في علمه وعدله.

التالي السابق


الخدمات العلمية