[ ص: 238 ] المسألة الخامسة
دار التكليف
وهي الجنة أو النار، كما صرح بذلك من صرح من أصحابنا وغيرهم، مستدلين بامتحان فالدنيا دار تكليف بلا خلاف، وكذلك البرزخ وعرصة القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخول دار الجزاء، منكر ونكير للناس في قبورهم وفتنتهم إياهم؟ وبأن الناس يوم القيامة يدعون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا يستطيع؟ وبأن من لم يكلف في الدنيا يكلف في عرصات القيامة.
وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحان فيها، وأما الامتحان قبل دار الجزاء فممكن لا محذور فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلفا في الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم.
وأما امتحان غير المكلفين في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم:
أحدهما: لا يمتحنون، وعلى هذا فلا يلقنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل.
والثاني: يمتحنون في قبورهم ويلقنون. وهو قول أكثرهم، حكاه ابن عبدوس" عن الأصحاب، وذكره أبو حكيم وغيره، وهو أصح، كما ثبت عن وروي مرفوعا أنه صفى على طفل لم يعمل خطيئة قط، فقال: "اللهم قه عذاب القبر وفتنة القبر" . [ ص: 239 ] أبي هريرة،
وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يشبه الاختلاف في امتحانهم في العرصة، وقول من يقول بامتحانهم أقرب إلى النصوص والقياس من قول من يقول: يعاقبون بلا امتحان.
المسألة السادسة
أن غير المكلف قد يرحم، فإن كما دل عليه قوله: أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة، والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم الآية ، وكما في الصحيحين من حديث وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أبي هريرة فهذا الحديث المستفيض المتلقى بالقبول نص في أن الجنة ينشأ لها في الدار الآخرة خلق يدخلونها بلا عمل، وأن النار لا يدخلها أحد بلا عمل. "احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبارون المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من شئت، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها". فأما النار فلا يزال يلقى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع رب العزة فيها -وفي رواية: عليها- قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط! قط. وأما الجنة فيفضل فيها فضل، فينشئ الله لها خلفا آخر".
وقد غلط في هذا الحديث المعطلة الذين أولوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدم في علمه أنهم أهل النار. حتى قالوا [ ص: 240 ] في قوله "رجله": كما يقال: رجل من جراد. وغلطهم من وجوه:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ولم يقل: حتى يلقي، كما قال في قوله: "حتى يضع"، "لا يزال يلقى فيها".
الثاني: أن قوله "قدمه" لا يفهم منه هذا، لا حقيقة ولا مجازا، كما تدل عليه الإضافة.
الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذبين فلا وجه لانزوائها واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفل، وفي أول المعذبين لا في أواخرهم.
الرابع: أن قوله دليل على أنها تنضم على من فيها، فتضيق بهم من غير أن يلقى فيها شيء. "فينزوي بعضها إلى بعض"
الخامس: أن قوله جعل الوضع الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عندها الانزواء، فيقتضي ذلك أن تكون الغاية أعظم مما قبلها. "لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه"
وليس في قول المعطلة معنى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأول أحق به من الآخر.
وقد يغلط في الحديث قوم آخرون ممثلة أو غيرهم، فيتوهمون أن "قدم الرب" تدخل جهنم. وقد توهم ذلك على أهل الإثبات قوم من المعطلة، حتى قالوا: كيف يدخل بعض الرب النار والله تعالى يقول: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ؟. [ ص: 241 ]
وهذا جهل ممن توهمه أو نقله عن أهل السنة والحديث، فإن الحديث: فدل ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأت بهم، كما أقسم على نفسه إنه ليملأنها من الجنة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غير ذلك من خالق أو مخلوق؟. وإنما المعنى أنه توضع القدم المضاف إلى الرب تعالى، فتنزوي وتضيق بمن فيها. والواحد من الخلق قد يركض متحركا من الأجسام فيسكن، أو ساكنا فيتحرك، ويركض جبلا فيتفجر منه ماء، كما قال تعالى: "حتى يضع رب العزة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط وعزتك"، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، وقد يضع يده على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى.