( فصل )
[ ص: 60 ] ومن ذلك : أنه يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه ، في غير الحدود ، ولم يوجب الله على الحكام ألا يحكموا إلا بشاهدين أصلا ، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين ، أو بشاهد وامرأتين ، وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك ، بل قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين ، وبالشاهد فقط .
قال رضي الله عنهما : { ابن عباس } رواه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين . مسلم
وقال رضي الله عنه : { أبو هريرة } رواه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد عن ابن وهب سليمان بن هلال عن ربيعة عن عنه . رواه سهيل أبو داود .
وقال : { جابر بن عبد الله } رواه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد عن الشافعي الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه .
قال : { علي بن أبي طالب } . رواه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة رجل واحد مع يمين صاحب الحق من حديث البيهقي . شبابة
حدثنا عن عبد العزيز الماجشون جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عنه ، وقال : { } . رواه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين يعقوب بن سفيان في مسنده " .
قال : وقد روي المنذري من رواية القضاء بالشاهد واليمين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسعد بن عبادة ، وجماعة من الصحابة ، والمغيرة بن شعبة وعمرو بن حزم ، والزبيب بن ثعلبة ، وقضى بذلك ، عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، والقاضي العدل وعلي بن أبي طالب ، شريح . وعمر بن عبد العزيز
قال عن الليث بن سعد : أن ذلك عندنا هو السنة المعروفة . يحيى بن سعيد
قال : وذلك من السنن الظاهرة التي هي أكثر من الرواية والحديث . [ ص: 61 ] قال أبو عبيد : وهو الذي نختاره ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واقتصاصا لأثره ، وليس ذلك مخالفا لكتاب الله عند من فهمه ، ولا بين حكم الله وحكم رسوله اختلاف ، إنما هو غلط في التأويل ، حيث لم يجدوا ذكر اليمين في الكتاب ظاهرا ، فظنوه خلافا . أبو عبيد
وإنما الخلاف : لو كان الله حظر اليمين في ذلك ، ونهى عنها ، والله تعالى لم يمنع من اليمين ، إنما أثبتها في الكتاب - إلى أن قال : { فرجل وامرأتان } وأمسك .
ثم فسرت السنة ما وراء ذلك . وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة للقرآن ومترجمة عنه ، وعلى هذا أكثر الأحكام . كقوله : { } و : { لا وصية لوارث الرجم على المحصن } .
و { } و { النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها } و { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قطع الموارثة بين أهل الإسلام [ ص: 62 ] وأهل الكفر } .
و { } في شرائع كثيرة ، لا يوجد لفظها في ظاهر الكتاب . ولكنها سنن شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعلى الأمة اتباعها ، كاتباع الكتاب . إيجابه على المطلقة ثلاثا : مسيس الزوج الآخر
وكذلك الشاهد واليمين لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ، وإنما في الكتاب : { فرجل وامرأتان } علم أن ذلك إذا وجدتا ، فإذا عدمتا قامت اليمين مقامهما ، كما علم حين مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين أن قوله تعالى : { وأرجلكم } معناه : أن تكون الأقدام بادية . وكذلك لما رجم المحصن في الزنا : علم أن قوله : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } للبكرين .
وكذلك كل ما ذكرنا من السنن على هذا فما بال الشاهد واليمين ترد من بينها ؟ وإنما هي ثلاث منازل في شهادات الأموال ، اثنتان بظاهر الكتاب وواحدة بتفسير السنة له . فالمنزلة الأولى : الرجلان .
والثانية : الرجل والمرأتان .
والثالثة : الرجل واليمين .
فمن أنكر هذه لزمه إنكار كل شيء ذكرناه ، لا يجد من ذلك بدا حتى يخرج من قول العلماء .
قال : ويقال لمن أنكر الشاهد واليمين ، وذكر أنه خلاف القرآن : ما تقول في الخصم يشهد له الرجل والمرأتان ، وهو واجد لرجلين يشهدان له ؟ فإن قالوا : الشهادة جائزة . أبو عبيد
قيل : ليس هذا أولى بالخلاف ، وقد اشترط القرآن فيه ألا يكون للمرأتين شهادة إلا مع فقد أحد الرجلين ، فإنه [ ص: 63 ] سبحانه قال : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ولم يقل : واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو رجلا وامرأتين .
فيكون فيه الخيار ، كما جعله في الفدية كما قال تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ومثل ما جعله في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فهذه أحكام الخيار ، ولم يقل ذلك في آية الدين .
ولكنه قال فيها كما قال في آية الفرائض : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وكذلك الآية التي بعدها فقوله هاهنا : { إن لم يكن } كقوله في آية الشهادة { فإن لم يكونا } كذلك قال في آية الطهور : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } وفي آية الظهار { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } وكذلك في متعة الحج وكفارة اليمين : أن الصوم لا يجزئ الواجد .
فأي الحكمين أولى بالخلاف : هذا أم الشاهد واليمين ، الذي ليس فيه من الله اشتراط منع ، إنما سكت عنه ، ثم فسرته السنة ؟ قال : وقد وجدنا في حكمهم ما هو أعجب من هذا ، وهو قولهم في أبو عبيد : إن الخال يجبر على رضاعه ، لأنه محرم ، وإنما اشترط التنزيل غيره فقال : { رضاع اليتيم الذي لا مال له ، وله خال وابن عم موسران وعلى الوارث مثل ذلك } .
وقد أجمع المسلمون أن لا ميراث للخال مع ابن العم ، ثم لم نجد هذا الحكم في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف العلماء ، وقد وجدنا الشاهد واليمين في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة ومن التابعين .
وقال الربيع : قال : قال بعض الناس في اليمين مع الشاهد قولا أسرف فيه على نفسه ، قال : أرد حكم من حكم بها ، لأنه خالف القرآن . الشافعي
فقلت له : الله تعالى أمر بشاهدين أو شاهد وامرأتين ؟ قال : نعم ، فقلت : أحتم من الله ألا يجوز أقل من شاهدين ؟ قال : فإن قلته ؟ قلت : فقله .
قال : قد قلته .
قلت وتحدد في الشاهدين اللذين أمر الله بهما حدا ؟ قال : نعم ، حران مسلمان بالغان عدلان .
قلت : ومن حكم بدون ما قلت خالف حكم الله ؟ قال : نعم .
قلت له : إن كان كما زعمت ، خالفت حكم الله ، قال : وأين ؟ قلت : أجزت شهادة أهل الذمة ، وهم غير الذين شرط الله أن تجوز شهادتهم .
وأجزت شهادة القابلة وحدها على الولادة ، وهذان وجهان أعطيت بهما من جهة الشهادة ، ثم أعطيت بغير شهادة في القسامة وغيرها .
قلت : والقضاء باليمين مع الشاهد ليس يخالف حكم الله ، بل هو موافق لحكم الله ، إذ فرض الله تعالى طاعة رسوله ، فإن اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله سبحانه قبلت ، كما قبلت عن رسوله .
قال : أفيوجد لهذا نظير في القرآن ؟ قلت : نعم .
أمر الله سبحانه في الوضوء بغسل القدمين ، أو مسحهما فمسحنا على الخفين بالسنة .
وقال تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي [ ص: 64 ] إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية ، فحرمنا نحن وأنت كل ذي ناب من السباع بالسنة .
وقال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . فحرمنا نحن وأنت الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، وذكر الرجم ونصاب السرقة ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله معنى ما أراد خاصا وعاما .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : القرآن لم يذكر الشاهدين ، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم ، وإنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه .
فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه . وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله . فليكتب ، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل . واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } .
فأمرهم سبحانه بحفظ حقوقهم بالكتاب وأمر من عليه الحق أن يملي الكاتب ، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه ، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين ، فإن لم يجد فرجل وامرأتان . ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طلبوا لذلك . ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة : ألا يكتبوها ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع . ثم أمرهم إذا كانوا على سفر - ولم يجدوا كاتبا - أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة . كل هذا نصيحة لهم ، وتعليم وإرشاد لما يحفظوا به حقوقهم ، وما تحفظ به الحقوق شيء ، وما يحكم به الحاكم شيء .
فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين ، فإن الحاكم يحكم بالنكول واليمين المردودة ، ولا ذكر لهما في القرآن ، فإن كان الحكم بالشاهد الواحد واليمين مخالفا لكتاب الله ، فالحكم بالنكول والرد أشد مخالفة .
وأيضا ، فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة ، ويحكم بالقافة بالسنة الصريحة الصحيحة التي لا معارض لها ، ويحكم بالقسامة بالسنة الصحيحة الصريحة ، ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان ، ويحكم - عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين - بوجوه الآجر في الحائط فيجعله للمدعي إذا كانت إلى جهته .
وهذا كله ليس في القرآن ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه فكيف ساغ الحكم به ، ولم يجعل مخالفا لكتاب الله ؟ ورد ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة ويجعل مخالفا لكتاب الله ؟ بل القول ما قاله أئمة الحديث : إن الحكم بالشاهد واليمين : حكم بكتاب الله ، فإنه حق ، والله سبحانه أمر بالحكم بالحق ، فهاتان قضيتان ثابتتان بالنص . [ ص: 65 ]
أما الأولى : فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده حكموا به ولا يحكمون بباطل .
وأما الثانية : فلقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فالحكم بالشاهد واليمين مما أراه الله إياه قطعا .
وقال تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم } وهذا مما حكم به . فهو عدل مأمور به من الله ولا بد .
24 - ( فصل )
والذين ردوا هذه المسألة لهم طرق : الطريق الأولى : أنها خلاف كتاب الله ، فلا تقبل وقد بين الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهم - أن كتاب الله لا يخالفها بوجه ، وإنها لموافقة لكتاب الله . وأبي عبيد
وأنكر الإمام أحمد على من رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن ، وللإمام والشافعي في ذلك كتاب مفرد سماه كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم " . أحمد
والذي يجب على كل مسلم اعتقاده : أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله ، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل .
المنزلة الأولى : سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل .
المنزلة الثانية : سنة تفسر الكتاب ، وتبين مراد الله منه ، وتقيد مطلقه .
المنزلة الثالثة : سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانا مبتدأ ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة .
وقد أنكر الإمام على من قال : " السنة تقضي على الكتاب " فقال : بل السنة تفسر الكتاب وتبينه ، والذي يشهد الله ورسوله به : أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض كتاب الله وتخالفه ألبتة ، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله ، وعليه أنزل ، وبه هداه الله ، وهو مأمور باتباعه ، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده ، ولو ساغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن ، وبطلت بالكلية . أحمد
فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة [ ص: 66 ] تخالف مذاهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها ، ويقول : هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل .
حتى أن الرافضة - قبحهم الله - سلكوا هذا المسلك بعينه في ، فردوا قوله صلى الله عليه وسلم : { رد السنن الثابتة المتواترة } . لا نورث ما تركنا صدقة
وقالوا : هذا حديث يخالف كتاب الله ، قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم ، للذكر مثل حظ الأنثيين } وردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله : { ليس كمثله شيء } .
وردت الخوارج ما شاء الله من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن .
وردت الجهمية أحاديث الرؤية - مع كثرتها وصحتها - بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن .
وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها ، وإما أن يطرد الباب في قبولها ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن .
أما أن يرد بعضها ويقبل بعضها - ونسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود - فتناقض ظاهر ، وما من أحد رد سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك .
وقد أنكر الإمام أحمد وغيرهما على من رد أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 67 ] بظاهر قوله تعالى : { والشافعي قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية .
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من رد سنته التي لم تذكر في القرآن ، ولم يدع معارضة القرآن لها فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنته تخالف القرآن وتعارضه ؟
25 - ( فصل )
الطريق الثاني : أن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه فلا تشرع في جانب المدعي ، قالوا : ويدل على ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم { } فجعل اليمين من جانب المنكر ، وهذه الطريقة ضعيفة جدا من وجوه . أحدها : أن أحاديث القضاء بالشاهدين واليمين أصح وأصرح وأشهر . البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر
وهذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة .
الثاني : أنه لو قاومها في الصحة والشهرة لوجب تقديمها عليه لخصوصها وعمومه .
الثالث : أن اليمين إنما كانت في جانب المدعى عليه ، حيث لم يترجح جانب المدعي بشيء غير الدعوى ، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين ، لقوته بأصل براءة الذمة ، فكان هو أقوى المدعيين باستصحاب الأصل ، فكانت اليمين من جهته .
فإذا ترجح المدعي بلوث ، أو نكول ، أو شاهد كان أولى باليمين ، لقوة جانبه بذلك ، فاليمين - مشروعة في جانب أقوى المتداعيين ، فأيهما قوي جانبه شرعت اليمين في حقه بقوته وتأكيده .
ولهذا لما قوي جانب المدعين باللوث شرعت الأيمان في جانبهم ، ولما قوي جانب المدعي بنكول المدعى عليه ردت اليمين عليه ، كما حكم به الصحابة ، وصوبه الإمام ، وقال : ما هو ببعيد ، يحلف ويأخذ . أحمد
ولما قوي جانب المدعى عليه بالبراءة الأصلية : كانت اليمين في حقه وكذلك الأمناء ، كالمودع والمستأجر والوكيل والوصي : القول قولهم ، ويحلفون ، لقوة جانبهم بالأيمان .
فهذه قاعدة الشريعة المستمرة ، فإذا أقام المدعي شاهدا واحدا قوي جانبه ، فترجح على جانب المدعى عليه ، الذي ليس معه إلا مجرد استصحاب الأصل ، وهو دليل ضعيف يدفع بكل دليل يخالفه ، [ ص: 68 ] ولهذا يدفع بالنكول واليمين المردودة واللوث والقرائن الظاهرة ، فدفع بقول الشاهد الواحد ، وقويت شهادته بيمين المدعي . فأي قياس أحسن من هذا وأوضح ؟ مع موافقته للنصوص والآثار التي لا تدفع .