الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    94 - ( فصل )

                    الطريق السادس والعشرون الحكم بالقافة :

                    وقد دلت عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه الراشدين والصحابة من بعدهم ، منهم عمر بن الخطاب [ ص: 182 ] وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم في الصحابة ، وقال بها من التابعين : سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، وإياس بن معاوية ، وقتادة ، وكعب بن سوار ، ومن تابعي التابعين : الليث بن سعد ، ومالك بن أنس ، وأصحابه ، وممن بعدهم : الشافعي وأصحابه ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأهل الظاهر كلهم .

                    وبالجملة : فهذا قول جمهور الأمة .

                    وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، وقالوا : العمل بها تعويل على مجرد الشبه ، وقد يقع بين الأجانب ، وينتفي بين الأقارب . وقد دلت على اعتبارها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسرور ، تبرق أسارير وجهه ، فقال : أي عائشة ، ألم تري أن مجززا المدلجي دخل ، فرأى أسامة وزيدا ، وعليهما قطيفة ، قد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض } وفي لفظ { دخل قائف والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به عائشة } متفق عليهما ، وذلك يدل على أن إلحاق القافة يفيد النسب ، لسرور النبي صلى الله عليه وسلم به ، وهو لا يسر بباطل .

                    فإن قيل : النسب كان ثابتا بالفراش ، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة قول القائف للفراش ، لا أنه أثبت النسب بقوله .

                    قيل : نعم ، النسب كان ثابتا بالفراش ، وكان الناس يقدحون في نسبه ، لكونه أسود وأبوه أبيض ، فلما شهد القائف بأن تلك الأقدام بعضها من بعض سر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الشهادة التي أزالت التهمة . حتى برقت أسارير وجهه من السرور .

                    ومن لا يعتبر القافة يقول : هي من أحكام الجاهلية ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسر لها ، بل كانت أكره شيء إليه ، ولو كانت باطلة لم يقل لعائشة : { ألم تري أن مجززا المدلجي قال كذا وكذا ؟ } فإن هذا إقرار منه ، ورضا بقوله ، ولو كانت القافة باطلة : لم يقر عليها ، ولم يرض بها ، وقد ثبت [ ص: 183 ] { في قصة العرنيين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في طلبهم قافة ، فأتى بهم } رواه أبو داود بإسناد صحيح ، فدل على اعتبار القافة والاعتماد عليها في الجملة . فاستدل بأثر الأقدام على المطلوبين . وذلك دليل حسي على اتحاد الأصل والفرع ، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بكون الولد نسخة أبيه .

                    وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري .

                    قال : أخبرني عروة : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا القافة في رجلين اشتركا في الوقوع على امرأة في طهر واحد . وادعيا ولدها فألحقته القافة بأحدهما " .

                    قال الزهري : أخذ عمر بن الخطاب ومن بعده بنظر القافة في مثل هذا . وإسناده صحيح متصل فقد لقي عروة عمر . واعتمر معه

                    . وروى شعبة عن توبة العنبري عن الشعبي عن ابن عمر ، قال : اشترك رجلان في طهر امرأة . فولدت . فدعا عمر القافة . فقالوا : قد أخذ الشبه منهما جميعا . فجعله عمر بينهما " . وهذا صحيح أيضا .

                    وروى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال : " كنت جالسا عند عمر بن الخطاب ، فجاءه رجلان يختصمان في غلام ، كلاهما يدعي أنه ابنه ، فقال عمر : ادعوا لي أخا بني المصطلق ، فجاء ، وأنا جالس ، فقال : انظر : ابن أيهما تراه ؟ فقال : قد اشتركا فيه جميعا ، فقال عمر : لقد ذهب بك بصرك المذاهب ، وقام فضربه بالدرة ، ثم دعا أم الغلام - والرجلان جالسان ، والمصطلقي جالس - فقال لها عمر : ابن أيهما هو ؟ قالت : كنت لهذا ، فكان يطؤني ، ثم يمسكني حتى يستمر بي حملي ، ثم يرسلني حتى ولدت منه أولادا ، ثم أرسلني مرة ، فأهرقت الدماء ، حتى ظننت أنه لم يبق شيء ، ثم أصابني هذا ، فاستمررت حاملا ، قال : أفتدرين من أيهما هو ؟ قالت : ما أدري من أيهما هو ؟ قال : فعجب عمر للمصطلقي قال للغلام : خذ بيد أيهما شئت ، فأخذ بيد أحدهما واتبعه " .

                    وروى قتادة عن سعيد بن المسيب - في رجلين اشتركا في طهر امرأة ، فحملت غلاما يشبههما - فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب " فدعا القافة ، فقال لهم : انظروا فنظروا ، فقالوا : نراه يشبههما ، فألحقه بهما ، وجعله يرثهما ويرثانه ، وجعله بينهما " .

                    قال قتادة : فقلت لسعيد بن المسيب : لمن عصبته ؟ قال : للباقي منهما .

                    وروى قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن علي " أن رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد ، فجاءت [ ص: 184 ] بولد ، فدعا له علي رضي الله عنه القافة ، وجعله ابنهما جميعا يرثهما ويرثانه " . وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين ، قال : " اختصم إلى أبي موسى الأشعري في ولد ادعاه دهقان ورجل من العرب ، فدعا القافة ، فنظروا إليه ، فقالوا للعربي : أنت أحب إلينا من هذا العلج ، ولكن ليس ابنك ، فخل عنه ، فإنه ابنه " . وروى زياد بن أبي زياد .

                    قال : " انتفى ابن عباس من ولد له ، فدعا له ابن كلدة القائف ، فقال : أما أنه ولده ، وادعاه ابن عباس " . وصح عن قتادة عن النضر بن أنس : " أن أنسا وطئ جارية له ، فولدت جارية ، فلما حضر قال : ادعوا لها القافة ، فإن كانت منكم فألحقوها بكم " .

                    وصح عن حميد : " أن أنسا شك في ولد له ، فدعا له القافة " . وهذه قضايا في مظنة الشهرة ، فيكون إجماعا .

                    قال حنبل : سمعت أبا عبد الله قيل له : تحكم بالقافة ؟ قال : نعم ، لم يزل الناس على ذلك .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية