الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    95 - ( فصل )

                    والقياس وأصول الشريعة تشهد للقافة : لأن القول بها حكم يستند إلى درك أمور خفية وظاهرة ، توجب للنفس سكونا ، فوجب اعتباره كنقد الناقد ، وتقويم المقوم .

                    وقد حكى أبو محمد ابن قتيبة : أن قائفا كان يعرف أثر الأنثى من أثر الذكر . وأما قولهم : " إنه يعتمد الشبه " فنعم ، وهو حق ، { قالت أم سلمة : يا رسول الله : أو تحتلم المرأة ؟ قال : تربت يداك ، فبم يشبهها ولدها ؟ } متفق عليه .

                    ولمسلم من حديث أنس بن مالك عن أم سليم قالت : { وهل يكون هذا - يعني الماء - [ ص: 185 ] فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فمن أين يكون الشبه ؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا - أو سبق - يكون الشبه منه } .

                    وعن عائشة : { أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تغتسل المرأة إذا هي احتلمت ، وأبصرت الماء ؟ فقال : نعم ، فقالت لها عائشة : تربت يداك وألت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعيها ، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك ؟ } رواه مسلم

                    . وله أيضا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان ، قال : { كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود ، فقال : السلام عليك يا محمد - الحديث بطوله - إلى أن قال : جئت أسألك عن الولد ؟ فقال : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا ، فعلا مني الرجل مني المرأة : أذكرا بإذن الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله } . وسمعت شيخنا رحمه الله يقول : في صحة هذا اللفظ نظر . قلت : لأن المعروف المحفوظ في ذلك ، إنما هو تأثير سبق الماء في الشبه وهو الذي ذكره البخاري ( 182 ) من حديث أنس : " أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأتاه ، فسأله عن أشياء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد } .

                    فهذا السؤال الذي سأل عنه عبد الله بن سلام ، والجواب الذي أجابه به النبي صلى الله عليه وسلم هو نظير السؤال الذي سأل عنه الحبر ، والجواب واحد ، ولا سيما إن كانت القصة واحدة ، والحبر هو عبد الله بن سلام ، فإنه سأله وهو على دين اليهود ، فأنسي اسمه ، وثوبان قال : " جاء حبر من اليهود " وإن كانتا قصتين والسؤال واحد فلا بد أن يكون الجواب كذلك " .

                    وهذا يدل على أنهم إنما سألوا عن الشبه ، ولهذا وقع الجواب به وقامت به الحجة ، وزالت به الشبهة . وأما الإذكار والإيناث : فليس بسبب طبيعي ، وإنما سببه : الفاعل المختار الذي يأمر الملك به ، [ ص: 186 ] مع تقدير الشقاوة والسعادة ، والرزق ، والأجل ، ولذلك جمع بين هذه الأربع في الحديث { فيقول الملك : يا رب ، ذكر ؟ يا رب ، أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك } .

                    وقد رد سبحانه ذلك إلى محض مشيئته في قوله تعالى : { يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما } .

                    والتعليق بالمشيئة - وإن كان لا ينافي ثبوت السبب بذلك - إذا علم كون الشيء سببا ، دل على سببيته بالعقل وبالنص ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سليم : { ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا - أو سبق - يكون الشبه } فجعل للشبه سببين : علو الماء ، وسبقه .

                    وبالجملة : فعامة الأحاديث إنما هي تأثير سبق الماء وعلوه في الشبه ، وإنما جاء تأثير ذلك في الإذكار والإيناث في حديث ثوبان وحده ، وهو فرد بإسناده ، فيحتمل أنه اشتبه على الراوي فيه الشبه بالإذكار والإيناث ، وإن كان قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهو الحق الذي لا شك فيه ، ولا ينافي سائر الأحاديث ، فإن الشبه من السبق . والإذكار والإيناث : من العلو ، وبينهما فرق ، وتعليقه على المشيئة لا ينافي تعليقه على السبب ، كما أن الشقاوة والسعادة والرزق معلقات بالمشيئة ، وحاصلة بالسبب ، والله أعلم .

                    والمقصود : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الشبه في لحوق النسب وهذا معتمد القائف ، لا معتمد له سواه .

                    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المتلاعنين { إن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك ابن سحماء فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن } رواه البخاري فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وجعله لمشبهه . [ ص: 187 ]

                    فإن قيل : فهذا حجة عليكم ، لأنه - مع صريح الشبه - لم يلحقه بمشبهه في الحكم .

                    قيل : إنما منع إعمال الشبه لقيام مانع اللعان : ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : { لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } فاللعان سبب أقوى من الشبه ، قاطع النسب ، وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب فإنما ذاك إذا لم يقاومه سبب أقوى منه ، ولهذا لا يعتبر مع الفراش ، بل يحكم بالولد للفراش ، وإن كان الشبه لغير صاحبه ، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد بن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش ، ولم يعتبر الشبه المخالف له ، فأعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حجب سودة ، حيث انتفى المانع من إعماله في هذا الحكم بالشبه إليها ، ولم يعمله في النسب لوجود الفراش .

                    وأصول الشرع وقواعده ، والقياس الصحيح : تقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب ، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها .

                    ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب : من شهادة المرأة الواحدة على الولادة ، والدعوى المجردة مع الإمكان ، وظاهر الفراش ، فلا يستبعد أن يكون الخالي عن سبب مقاوم له كافيا في ثبوته ، ولا نسبة بين قوة اللحاق بالشبه وبين ضعف اللحاق لمجرد العقد ، مع القطع بعدم الاجتماع ، في مسألة المشرقية والمغربي .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية