[ ص: 112 ] قوله تعالى : اذهب إلى فرعون إنه طغى لما آنسه بالعصا واليد ، وأراه ما يدل على أنه رسول ، أمره بالذهاب إلى فرعون ، وأن يدعوه . وطغى معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد . قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي طلب الإعانة لتبليغ الرسالة . ويقال : إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن ؛ فقال موسى : يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه ؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال : يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به . فقال موسى عند ذلك : رب اشرح لي صدري أي وسعه ونوره بالإيمان والنبوة .
ويسر لي أمري أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . واحلل عقدة من لساني يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل . قال ابن عباس : كانت في لسانه رتة . وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة ، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية : هذا عدوي فهات الذباحين . فقالت آسية : على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء . ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه ، فكانت تلك الرتة وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ . ولما دعاه قال أي رب تدعوني ؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها . وعن بعضهم : إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة . ثم اختلف هل زالت تلك الرتة ؛ فقيل : زالت بدليل قوله : قد أوتيت سؤلك يا موسى وقيل : لم تزل كلها ؛ بدليل قوله حكاية عن فرعون : ولا يكاد يبين . ولأنه لم يقل : احلل كل لساني ، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك . وقيل : زالت بالكلية بدليل قوله : أوتيت سؤلك وإنما قال فرعون : ولا يكاد يبين لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية ، وما ثبت عنده أن الآفة زالت .
قلت : وهذا فيه نظر ؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون : ولا يكاد يبين حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح . والله أعلم . وقيل : إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه ، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه . يفقهوا قولي أي يعلموا ما أقوله لهم ويفهموه . والفقه في كلام العرب الفهم . قال أعرابي لعيسى بن عمر : شهدت عليك بالفقه . تقول منه : فقه الرجل بالكسر . وفلان لا يفقه ولا ينقه . وأفقهتك الشيء ثم خص به علم الشريعة ، والعالم به فقيه . [ ص: 113 ] وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك . وفاقهته إذا باحثته في العلم ؛ قاله الجوهري . والوزير المؤازر كالأكيل للمؤاكل ؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله . في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد : سمعت عمتي تقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه . ومن هذا المعنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله رواه البخاري .
فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا ، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة ، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة . وعين فقال : هارون وانتصب على البدل من قوله : وزيرا . ويكون منصوبا ب ( اجعل ) على التقديم والتأخير والتقدير : واجعل لي هارون أخي وزيرا . وكان هارون أكبر من موسى بسنة ، وقيل : بثلاث . اشدد به أزري أي ظهري والأزر الظهر من موضع الحقوين ، ومعناه تقوى به نفسي ؛ والأزر القوة وآزره قواه . ومنه قوله تعالى : فآزره فاستغلظ وقال أبو طالب :
أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
وقيل : الأزر العون ، أي يكون عونا يستقيم به أمري . قال الشاعر :
شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
وكان هارون أكثر لحما من موسى ، وأتم طولا ، وأبيض جسما ، وأفصح لسانا . ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة ، وعلى أرنبة أنف موسى شامة ، وعلى طرف لسانه شامة ، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده ، وقيل : إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه . والله أعلم .
وأشركه في أمري أي في النبوة وتبليغ الرسالة . قال المفسرون : كان هارون يومئذ بمصر ، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون ، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى ، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه ؛ فقال له موسى : إن الله [ ص: 114 ] أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا . وقرأ العامة ( أخي اشدد ) بوصل الألف ( وأشركه ) بفتح الهمزة على الدعاء ، أي اشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري . وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق ( أشدد ) بقطع الألف ( وأشركه ) أي أنا يا رب في أمري . قال النحاس : جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله : اجعل لي وزيرا وهذه القراءة شاذة بعيدة ؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة ؛ فيكون المعنى : إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري ، وأشركه في أمري . وأمره النبوة والرسالة ، وليس هذا إليه - صلى الله عليه وسلم - فيخبر به ، إنما سأل الله - عز وجل - أن يشركه معه في النبوة . وفتح الياء من أخي ابن كثير وأبو عمر .
كي نسبحك كثيرا قيل : معنى نسبحك نصلي لك . ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان . أي ننزهك عما لا يليق بجلالك . وكثيرا نعت لمصدر محذوف . ويجوز أن يكون نعتا لوقت . والإدغام حسن . وكذا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال الخطابي : البصير المبصر ، والبصير العالم بخفيات الأمور ، فالمعنى ؛ أي عالما بنا ، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا ، فأحسن إلينا كذلك يا رب .


