قوله تعالى : قال قد أوتيت سؤلك يا موسى لما سأله شرح الصدر ، وتيسير الأمر إلى ما ذكر ، أجاب سؤله ، وأتاه طلبته ومرغوبه . والسؤل الطلبة ؛ فعل بمعنى مفعول ، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول . وقوله تعالى : ولقد مننا عليك مرة أخرى أي قبل هذه ، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء ؛ وذلك حين الذبح . والله أعلم . والمن [ ص: 115 ] الإحسان والإفضال . وقوله : إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى قيل : أوحينا ألهمنا وقيل : أوحى إليها في النوم . وقال ابن عباس : أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين . أن اقذفيه في التابوت قال مقاتل مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل . وكان التابوت من جميز .
فاقذفيه في اليم أي اطرحيه في البحر : نهر النيل . فاقذفيه قال الفراء : فاقذفيه في اليم أمر وفيه معنى المجازاة . أي اقذفيه يلقه اليم . وكذا قوله : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم . يأخذه عدو لي وعدو له يعني فرعون ؛ فاتخذت تابوتا ، وجعلت فيه نطعا ، ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون . وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا ، فوضعته فيه وقيرته وجصصته ، ثم ألقته في اليم . وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية ، إذا بالتابوت ، فأمر به فأخرج ، ففتح فإذا صبي أصبح الناس ، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه . وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه ، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه . ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل ، فيه فوهة نهر فرعون ، ثم أداه النهر إلى حيث البركة . والله أعلم .
وقيل : وجدته ابنة فرعون وكان بها برص ، فلما فتحت التابوت شفيت . وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته ، فإذا صبي نوره بين عينيه ، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه . وكانت لفرعون بنت برصاء ، وقال له الأطباء : لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه ؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت . وقيل : لما نظرت إلى وجهه برئت . والله أعلم . وقيل : وجدته جوار لامرأة فرعون ، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها ، فأحبه فرعون .
وألقيت عليك محبة مني قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه . وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه . وقال عكرمة : المعنى جعلت فيك حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك . وقال الطبري : المعنى ألقيت عليك رحمتي . وقال ابن زيد : جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره ، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك . ولتصنع على عيني قال ابن عباس : يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت ، وحيث ألقي التابوت في البحر ، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون ؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه ، فقالت [ ص: 116 ] منهن واحدة : لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها ، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن . وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا ، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط ؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون ، فقالت له : قرة عين لي ولك قال لها فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا . فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق فقالت : هبه لي ولا تقتله ؛ فوهبه لها . وقيل : ولتصنع على عيني أي تربى وتغذى على مرأى مني ؛ قاله قتادة . قال النحاس : وذلك معروف في اللغة ؛ يقال : صنعت الفرس وأصنعته إذا أحسنت القيام عليه . والمعنى ولتصنع على عيني فعلت ذلك . وقيل : اللام متعلقة بما بعدها من قوله : إذ تمشي أختك على التقديم والتأخير ف ( إذ ) ظرف لتصنع . وقيل : الواو في ولتصنع زائدة . وقرأ ابن القعقاع ( ولتصنع ) بإسكان اللام على الأمر ، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب . وقرأ أبو نهيك ( ولتصنع ) بفتح التاء . والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي وعلى عين مني . ذكره المهدوي .
إذ تمشي أختك العامل في إذ تمشي ألقيت أو ( تصنع ) . ويجوز أن يكون بدلا من إذ أوحينا وأخته اسمها مريم فتقول هل أدلكم على من يكفله وذلك أنها خرجت متعرفة خبره ، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع ، وكان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته ، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به . فقالوا لها : تقيمين عندنا ؛ فقالت : إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون . قالوا : ومن هي ؟ . قالت : أمي . فقالوا : لها لبن ؟ قالت : لبن أخي هارون . وكان هارون أكبر من موسى بسنة . وقيل بثلاث . وقيل بأربع . وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين ، فولد هارون فيها ؛ قال ابن عباس : فجاءت الأم فقبل ثديها .
فرجعناك إلى أمك وفى مصحف أبي ( فرددناك ) كي تقر عينها وروى عبد الحميد عن ابن عامر ( كي تقر عينها ) بكسر القاف . قال الجوهري : وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما . ورجل قرير العين ؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت . وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه ، ويقال : حتى تبرد ولا تسخن . وللسرور دمعة باردة ، وللحزن دمعة حارة . وقد تقدم هذا المعنى في ( مريم ) .
ولا تحزن أي على فقدك . وقتلت نفسا قال ابن عباس : قتل قبطيا كافرا . قال كعب : وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة . في صحيح مسلم : وكان قتله خطأ ؛ على ما يأتي فنجيناك من الغم أي آمناك من الخوف والقتل والحبس . [ ص: 117 ] وفتناك فتونا أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة ، وقال قتادة : بلوناك بلاء . مجاهد : أخلصناك إخلاصا . وقال ابن عباس : اختبرناك بأشياء قبل الرسالة ، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في اليم ، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره بلحية فرعون ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب ، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق . فيقال : إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار ، وأتعبه ، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره ، وقال له : أتعبتني وأتعبت نفسك ؛ ولم يغضب عليه . قال : ولهذا اتخذه الله كليما ؛ وقد مضى في ( النساء ) . وهب بن منبه
قوله تعالى : فلبثت سنين في أهل مدين يريد عشر سنين أتم الأجلين . وقال وهب : لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة ، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب ، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده . ثم جئت على قدر يا موسى قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان : يريد موافقا للنبوة والرسالة ؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة . وقال مجاهد ومقاتل : على قدر على وعد . وقال محمد بن كعب : ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه . والمعنى واحد . أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه . وقال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
واصطنعتك لنفسي قال قوله تعالى : ابن عباس : أي اصطفيتك لوحيي ورسالتي . وقيل : اصطنعتك خلقتك ؛ مأخوذ من الصنعة . وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي . اذهب أنت وأخوك بآياتي قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه . ولا تنيا في ذكري قال ابن عباس : تضعفا أي في أمر الرسالة ؛ وقاله قتادة . وقيل : تفترا . قال الشاعر [ العجاج ] :
فما ونى محمد مذ ان غفر له الإله ما مضى وما غبر
والونى الضعف والفتور ، والكلال والإعياء . وقال امرؤ القيس :
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل
ويقال : ونيت في الأمر أني ونى وونيا أي ضعفت ، فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا [ ص: 118 ] أضعفتها وأتعبتها : وفلان لا يني كذا ، أي لا يزال ، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة :
كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
وعن ابن عباس أيضا : لا تبطئا . وفي قراءة ابن مسعود ( ولا تهنا في ذكري ) وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي .