( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ) : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ; لأن قوله : ( فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك ) ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة . فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفرا في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ، ليبين مساواتهم في ذلك ، أي في حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة . وقرأ عبد الله بن عمير : " ومن حيث " بالفتح ، فتح تخفيفا . وقد تقدم القول في حيث في قوله : ( حيث شئتما ) .
( وإنه للحق من ربك ) : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل . وفي الأول قال : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فرد عليهم بأشياء منها : أن علمائهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : ( وما الله بغافل عما تعملون ) في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك هو محض التعبد . فالجهات كلها بالنسبة إلى البارئ تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زمانا ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض . فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه . وجاء في قوله : ( الحق من ربك ) في المكانين ، وفي قوله : ( وما الله ) في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى [ ص: 440 ] إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب .