وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
وتسمية جبريل بذلك ؛ لأن الغالب على جسمه الروحانية ، وكذلك سائر الملائكة ، أو لأنه يحيا به الدين ، كما يحيا البدن بالروح ، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي ، أو لتكوينه روحا من غير ولادة . وتأييد الله عيسى بجبريل - عليهما السلام - لإظهار حجته وأمر دينه ، أو لدفع اليهود عنه ، إذ أرادوا قتله ، أو في جميع أحواله . واختار أن معناه : بالروح المقدسة ، قال : كما يقال الزمخشري حاتم الجود ، ورجل صدق . ووصفها بالقدس كما قال : و " روح منه " ، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة . انتهى كلامه . وقد تقدم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة . وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء الله تعالى ، كالقدوس . قالوا : وإطلاق الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز ؛ لأن الروح هو الريح [ ص: 300 ] المتردد في مخارق الإنسان في منافذه . ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ، إلا أن كلا منها أطلق الروح عليه على سبيل التشبيه من حيث إن الروح سبب للحياة ، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم ، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها ، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض . والمشابهة بين جبريل والروح أتم ، ولأن هذه التسمية فيه أظهر ، ولأن المراد من أيدناه : قويناه وأعناه ، وإسنادها إلى جبريل حقيقة ، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز . ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص ، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ؛ لأنه هو الذي بشر مريم بولادته ، وتولد عيسى بنفخه ، ورباه في جميع الأحوال ، وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حيث صعد إلى السماء .
( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) : الهمزة أصلها للاستفهام ، وهي هنا للتوبيخ والتقريع . والفاء لعطف الجملة على ما قبلها ، واعتني بحرف الاستفهام فقدم ، والأصل فأكلما . ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف ، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها ، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل ، آتيناكم ما آتيناكم . فكلما جاءكم رسول . ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف ، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق . وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى : ( كلما رزقوا منها ) ، فأغنى عن إعادته . والناصب لها قولها : ( استكبرتم ) . والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل ، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق ، وتكذيب الرسل ، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم ، والشك والارتياب فيما أتوهم به ، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك . وسياق الآيات يدل عليه ، أو إلى من بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبنائهم ، لأنهم راضون بفعلهم ، والراضي كالفاعل . وقد كذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وسقوه السم ليقتلوه ، وسحروه . وبما : متعلق بقوله : جاءكم ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي لا تهواه . وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق ، ومنه هذه الآية . وأسند الهوى إلى النفس ، ولم يسند إلى ضمير المخاطب ، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة ، ( إن النفس لأمارة بالسوء ) ، ( فطوعت له نفسه قتل أخيه ) ، ( قال بل سولت لكم أنفسكم ) . استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل ، وهو أحد معاني استفعل . وفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس . والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول . أو استبعادا للرسالة ، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب . وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق ، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم ، وهو كما ذكرنا استكبار بمعنى التكبر ، وهو مشعر بالتكلف والتفعل لذلك ، لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء ، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته ؛ لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى ، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة .
( ففريقا كذبتم ) : ظاهره أنه معطوف على قوله : استكبرتم ، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط ، حيث لا يقدرون على قتله ، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله وتهيأ لهم ذلك ، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه . واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك ، فذكر أقبح أفعالهم معه ، وهو قتله . وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون ( ففريقا كذبتم ) معطوفا على قوله : ( وأيدناه ) ، ويكون قوله : أفكلما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار . والأظهر في ترتيب الكلام الأول ، وهذا أيضا محتمل ، وأخر العامل وقدم المفعول ليتواخى رءوس الآي ، وثم محذوف تقديره : ففريقا منهم كذبتم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ، ولأنه المشترك بين الفريقين : المكذب والمقتول .
( وفريقا تقتلون ) : وأتى بفعل القتل مضارعا ، إما لكونه حكيت [ ص: 301 ] به الحال الماضية ، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس ، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه ، ولما فيه من مناسبة رءوس الآي التي هي فواصل ، وإما لكونه مستقبلا ، لأنهم يرومون قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سحروه وسموه . وقال - صلى الله عليه وسلم - عند موته : " " . وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم ؛ لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له يرومون قتله . فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله ؟ فقتله عندهم أولى . قال ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ابن عطية عن بني إسرائيل : كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم تقوم سوقهم آخر النهار . وروي سبعين نبيا ، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار .
( وقالوا قلوبنا غلف ) : الضمير في قالوا عائد على اليهود ، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا ذلك بهتا ودفعا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات ، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات . نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية . وقرأ الجمهور : غلف ، بإسكان اللام . وتقدم الكلام على سكون اللام ، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف ؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف ؟ وأصله الضم ، كحمار وحمر . قال ابن عطية : وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر . ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو حمر جمع حمار ، دون ضرورة . وقرأ ، ابن عباس ، والأعرج وابن هرمز ، وابن محيصن ، غلف : بضم اللام ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وهو جمع غلاف ، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف ؛ لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر . يقال غلفت السيف : جعلت له غلافا . فأما من قرأ : غلف بالإسكان ، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز . وقال مجاهد : أي عليها غشاوة . وقال عكرمة : عليها طابع . وقال : ذوات غلف ، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة . وقيل معناه : خلقت غلفا لا تتدبر ولا تعتبر . وقيل : محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين . ويحتمل على هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة ، حتى يسكتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون ذلك خبرا منهم بحال قلوبهم ؛ لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها ، وكانوا يدفعون بغير ذلك ، وأسباب الدفع كثيرة . وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم ، أقاموا العلم مقام شيء مجسد ، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له ، ليستدل بالمحسوس على المعقول . ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم ، فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعيته ، قاله الزجاج ابن عباس وقتادة والسدي . ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبنا غلف ، أي مملوءة علما ، فلا تسع شيئا ، ولا تحتاج إلى علم غيره ، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره . ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة ، وهي لصلابتها وقوتها تمنع أن يصل إليها غير ما فيها ، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره . وقيل : المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه .
( بل لعنهم الله بكفرهم ) : بل : للإضراب ، وليس إضرابا عن اللفظ المقول ؛ لأنه واقع لا محالة ، فلا يضرب عنه ، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم : إن قلوبهم غلف ، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق ، مفطورة لإدراك الصواب ، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه . ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم ، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر .
( فقليلا ما يؤمنون ) : انتصاب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي فإيمانا قليلا يؤمنون ، قاله قتادة . وعلى مذهب : انتصابه على الحال ، التقدير : فيؤمنونه ، أي الإيمان في حال قلته . وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف ، أي فزمانا قليلا يؤمنون ، لقوله تعالى : [ ص: 302 ] ( سيبويه آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) . وجوزوا أيضا انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون ، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل ، وهو قول معمر . وجوزوا أيضا أن يكون حالا من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون ، المعنى : أي فجمعا قليلا يؤمنون ، أي المؤمن منهم قليل ، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة ، وملخصه : أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر ، أو للزمان ، أو للمؤمن به ، أو للفاعل . فبالنسبة إلى المصدر : تكون القلة بحسب متعلقه ؛ لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة . وبالنسبة إلى الزمان : تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - قليلا ، وهو زمان الاستفتاح ، ثم كفروا بعد ذلك . وبالنسبة إلى المؤمن به : تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه ، إذ هم مجسمون ، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة . وبالنسبة للفاعل : تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلا . وقال : المعنى أي لا قليلا ولا كثيرا ، يقال قل ما يفعل ، أي ما يفعل أصلا . وقال الواقدي : إن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا . وقال ابن الأنباري المهدوي : مذهب قتادة أن المعنى : فقليل منهم من يؤمن ، وأنكره النحويون وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع قليل . وقال : ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ، وما ذهبوا إليه من أن قليلا يراد به النفي صحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : ( الزمخشري فقليلا ما يؤمنون ) ؛ لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : قمت قليلا ، أي قياما قليلا . ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلا منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل ، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية . وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم : أقل رجل يقول ذلك ، وقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد ، وقليل من الرجال يقول ذلك ، وقليلة من النساء تقول ذلك . وإذا تقرر هذا ، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح . وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة ، وإنكار النحويين ذلك ، وقولهم : لو كان كذلك للزم رفع قليل . فقول قتادة صحيح ، ولا يلزم ما ذكره النحويون ؛ لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ، ولم يرد شرح الإعراب فيلزمه ذلك . وإنما انتصاب قليلا عنده على الحال من الضمير في يؤمنون ، والمعنى عنده : فيؤمنون قوما قليلا ، أي في حالة قلة . وهذا معناه : فقليل منهم من يؤمن . وما في قوله : ما يؤمنون ، زائدة مؤكدة ، دخلت بين المعمول والعامل ، نظير قولهم : رويد ما الشعر ، وخرج ما أنف خاطب بدم . ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية ؛ لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر . والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول ، وهو أن يكون المعنى : فإيمانا قليلا يؤمنون ؛ لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان ، وعلى الهيئة ، وعلى المفعول ، وعلى الفاعل ، ولموافقته ظاهر قوله تعالى : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) . وأما قول العرب : مررنا بأرض قليلا ما تنبت ، وأنهم يريدون لا تنبت شيئا ، فإنما ذلك لأن قليلا انتصب على الحال من أرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية ، والتقدير : قليلا إنباتها ، أي لا تنبت شيئا ، وليست ما زائدة ، وقليل نعت لمصدر محذوف ، تقدير الكلام : تنبت قليلا ، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض ، لأن قولك : تنبت قليلا ، لا يدل على نفي الإنبات رأسا ، وكذلك لو قلنا : ضربت ضربا قليلا ، لم يكن معناه ما ضربت أصلا .