[ ص: 120 ] النوع التاسع .  
معرفة سبب النزول .  
أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم   علي بن المديني شيخ البخاري ،  ومن أشهرها كتاب  الواحدي  على ما فيه من إعواز ، وقد اختصره  الجعبري  فحذف أسانيده ، ولم يزد عليه شيئا .  
وألف فيه شيخ الإسلام  أبو الفضل ابن حجر  كتابا مات عنه مسودة ، فلم نقف عليه كاملا .  
وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله في هذا النوع ، سميته " لباب النقول في أسباب النزول " .  
قال  الجعبري     :  نزول القرآن على قسمين      : قسم نزل ابتداء ، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال ، وفي هذا النوع مسائل :  
المسألة الأولى :  
[  فوائد معرفة أسباب النزول      ] زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن ، لجريانه مجرى التاريخ . وأخطأ في ذلك ، بل له فوائد :  
منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم .  
ومنها : تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب .  
ومنها : أن اللفظ قد يكون عاما ، ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته ، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه  القاضي أبو بكر  في التقريب ، والالتفات إلى من شذ ، فجوز ذلك .  
 [ ص: 121 ] ومنها : الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال : قال  الواحدي     : لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها .  
وقال  ابن دقيق العيد     : بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن .  
وقال  ابن تيمية     : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب .  
وقد أشكل على   مروان بن الحكم  معنى قوله - تعالى - :  لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا      [ آل عمران : 188 ] وقال : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن أجمعون ، حتى بين له   ابن عباس     : أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه . أخرجه الشيخان .  
وحكي  عن   عثمان بن مظعون  وعمرو بن معدي كرب  أنهما كانا يقولان : الخمر مباحة ، ويحتجان بقوله تعالى :  ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا   الآية [ المائدة : 93 ] ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك ، وهو أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر : كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس ؟ فنزلت . أخرجه  أحمد   والنسائي  وغيرهما .  
ومن ذلك قوله تعالى :  واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر      [ الطلاق : 4 ] فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة ، حتى قال  الظاهرية      : بأن  الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب      . وقد بين ذلك سبب النزول ، وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء ، قالوا : قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن : الصغار والكبار ، فنزلت . أخرجه  الحاكم ،  عن  أبي     . فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما      [ ص: 122 ] حكمهن في العدة وارتاب : هل عليهن عدة أو لا ؟ وهل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أو لا ؟ فمعنى ( إن ارتبتم ) إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن ، فهذا حكمهن .  
ومن ذلك قوله تعالى :  فأينما تولوا فثم وجه الله      [ البقرة : 115 ] . فإنا لو تركنا ومدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الإجماع ، فلما عرف سبب نزولها على أنها في نافلة السفر ، أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ ; على اختلاف الروايات في ذلك .  
ومن ذلك قوله :  إن الصفا والمروة من شعائر الله      [ البقرة : 158 ] ، فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي . فرض وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكا بذلك ، وقد ردت  عائشة  على  عروة  في فهمه ذلك بسبب نزولها ، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية ، فنزلت .  
ومنها : دفع توهم الحصر : قال   الشافعي  ما معناه في قوله تعالى :  قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما   الآية [ الأنعام : 145 ] : أن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله ، وكانوا على المضادة والمحادة ، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة ، فكأنه تعالى قال : لا حرام إلا ما أحللتموه ، من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل .  
قال   إمام الحرمين     : وهذا في غاية الحسن ، ولولا سبق   الشافعي  إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية .  
ومنها : معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها ، ولقد  قال  مروان  في   عبد الرحمن بن أبي بكر     : إنه الذي أنزل فيه  والذي قال لوالديه أف لكما      [ الأحقاف : 17 ] حتى ردت عليه  عائشة  وبينت له سبب نزولها .      [ ص: 123 ] المسألة الثانية :  
اختلف أهل الأصول : هل  العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب   ؟ .  
والأصح عندنا : الأول ، وقد نزلت آيات في أسباب ، واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها كنزول آية الظهار في  سلمة بن صخر  ، وآية اللعان في شأن  هلال بن أمية  ، وحد القذف في رماة  عائشة ،  ثم تعدى إلى غيرهم .  
ومن لم يعتبر عموم اللفظ قال : خرجت هذه الآيات ونحوها لدليل آخر ، كما قصرت آيات على أسبابها اتفاقا لدليل قام على ذلك .  
قال   الزمخشري  في سورة الهمزة : يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض .  
قلت : ومن الأدلة على اعتبار عموم اللفظ : احتجاج الصحابة وغيرهم في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة ، شائعا ذائعا بينهم .  
قال   ابن جرير     : حدثني   محمد بن أبي معشر ،  أخبرنا  أبي أبو معشر نجيح  ،  سمعت   سعيد المقبري  يذاكر   محمد بن كعب القرظي ،  فقال  سعيد     : إن في بعض كتب الله : إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين . فقال   محمد بن كعب     : هذا في كتاب الله :  ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا   الآية [ البقرة : 204 ] ، فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت ؟ فقال   محمد بن كعب     : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد     .  
فإن قلت : فهذا   ابن عباس  ، لم يعتبر عموم :  لا تحسبن الذين يفرحون   الآية [ آل عمران : 188 ] ، بل قصرها على ما أنزلت عليه من قصة أهل الكتاب .  
 [ ص: 124 ] قلت : أجيب عن ذلك بأنه لا يخفى عليه أن اللفظ أعم من السبب ، لكنه بين أن المراد باللفظ خاص ، ونظيره تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى :  ولم يلبسوا إيمانهم بظلم      [ الأنعام : 82 ] بالشرك من قوله  إن الشرك لظلم عظيم      [ لقمان : 13 ] مع فهم الصحابة العموم في كل ظلم .  
وقد ورد عن   ابن عباس  ما يدل على اعتبار العموم ، فإنه قال به في آية السرقة مع أنها نزلت في امرأة سرقت . قال   ابن أبي حاتم     : حدثنا  علي بن الحسين  ، حدثنا  محمد بن أبي حماد ،  حدثنا  أبو ثميلة بن عبد المؤمن ،  عن  نجدة الحنفي  قال :  سألت   ابن عباس ،  عن قوله :  والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما      [ المائدة : 38 ] أخاص أو عام ؟ قال : بل عام     .  
وقال  ابن تيمية     : قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة   ثابت بن قيس ،  وإن آية الكلالة نزلت في   جابر بن عبد الله  ، وإن قوله  وأن احكم بينهم      [ المائدة : 49 ] نزلت في  بني قريظة   والنضير ،   ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين  بمكة   ، أو في قوم من  اليهود   والنصارى   ، أو في قوم من المؤمنين ، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق ، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه ؟ فلم يقل أحد : إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال : إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ ، والآية التي لها سبب معين : إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وإن كانت خبرا بمدح أو ذم ، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته . انتهى .  
تنبيه : قد علمت مما ذكر أن فرض المسألة في لفظ له عموم أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا ، كقوله تعالى :  وسيجنبها الأتقى   الذي يؤتي ماله يتزكى      [ الليل : 17 - 18 ] فإنها نزلت في   أبي بكر الصديق  بالإجماع ، وقد استدل بها   الإمام فخر الدين الرازي  مع قوله  إن أكرمكم عند الله أتقاكم      [ الحجرات : 13 ] على أنه  أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم      - .  
ووهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله ، إجراء له على القاعدة ، وهذا غلط فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم ، إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع زاد قوم : ( أو مفرد ) ، بشرط أن لا يكون هناك عهد . واللام في      [ ص: 125 ] الأتقى ليست موصولة ، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا ، والأتقى ليس جمعا بل هو مفرد ، والعهد موجود ، خصوصا مع ما يفيده صيغة ( أفعل ) من التمييز وقطع المشاركة ، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه - رضي الله عنه - .  
المسألة الثالثة :  
[  
				
						
						
