[ ص: 282 ] النوع الثامن والستون في  جدل القرآن      .  
أفرده بالتصنيف  نجم الدين الطوفي     .  
قال العلماء : قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به ، لكن أورده على عادات العرب دون دقائق طرق المتكلمين لأمرين .  
أحدها : بسبب ما قاله  وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم      [ إبراهيم : 4 ] .  
والثاني : أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام ، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ، ولم يكن ملغزا فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة ، ليفهم العامة من جليها ما يقنعهم وتلزمهم الحجة وتفهم الخواص من أثنائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء .  
وقال  ابن أبي الإصبع     : زعم   الجاحظ  أن  المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن   وهو مشحون به . وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام ، ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة ، فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله  وأن الله يبعث من في القبور      [ الحج : 7 ] . خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات :  
قوله  ذلك بأن الله هو الحق      [ الحج : 6 ] . لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظما لها ، وذلك مقطوع بصحته ، لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه      [ ص: 283 ] عمن تثبت قدرته منقول إلينا بالتواتر فهو حق ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق فالله هو الحق .  
وأخبر تعالى أنه يحيي الموتى لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر ، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي يعملها الله من أجلهم ، وقد ثبت أنه قادر على كل شيء ومن الأشياء إحياء الموتى فهو يحيي الموتى وأخبر أنه على كل شيء قدير ، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ، ومن يجادل فيه بغير علم ، يذقه عذاب السعير ، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير فهو على كل شيء قدير .  
وأخبر  وأن الساعة آتية لا ريب فيها      [ الحج : 6 ] . لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله :  لكيلا يعلم من بعد علم شيئا      [ الحج : 6 ] . وضرب لذلك مثلا بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج ، ومن خلق الإنسان على ما خبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ، ثم يعيده بالبعث ، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل ، ثم أحياها بالخصب ، وصدق خبره في ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره في الإتيان بالساعة .  
ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث من في القبور; لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة فهي آتية لا ريب فيها وهو سبحانه وتعالى يبعث من في القبور .  
وقال غيره :  استدل سبحانه وتعالى على المعاد الجسماني   بضروب .  
أحدها : قياس الإعادة على الابتداء كما قال تعالى :  كما بدأكم تعودون      [ الأعراف : 29 ] ،  كما بدأنا أول خلق نعيده      [ الأنبياء : 104 ] .  أفعيينا بالخلق الأول      [ ق : 15 ] .  
ثانيها : قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى قال تعالى :  أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر      [ يس : 81 ] . الآية .  
ثالثها : قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات .  
 [ ص: 284 ] رابعها : قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر .  
وقد روى  الحاكم  وغيره أن  أبي بن خلف  جاء بعظم ففته ، فقال : أيحيي الله هذا بعد ما بلي ورم ، فأنزل الله :  قل يحييها الذي أنشأها أول مرة      [ يس : 79 ] . فاستدل سبحانه وتعالى برد النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث ، ثم زاد في الحجاج بقوله :  الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا      [ يس : 80 ] . وهذه في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره ، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما .  
خامسها : في قوله تعالى :  وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى      [ النحل : 38 ، 39 ] . الآيتين . وتقريرها أن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلاب الحق في نفسه ، وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه ، والحق في نفسه واحد ، فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة لا محالة ، وكان لا سبيل لنا في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفا يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف ، إذ كان الاختلاف مركوزا في فطرنا وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجبلة ، ونقلها إلى صورة غيرها صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة فيها يرتفع الخلاف والعناد ، وهذه هي الحالة التي وعد الله بالمصير إليها فقال :  ونزعنا ما في صدورهم من غل      [ الأعراف : 43 ] . حقد فقد صار الخلاف الموجود كما ترى أوضح دليل على كون البعث الذي ينكره المنكرون ، كذا قرره ابن السيد .  
ومن ذلك  الاستدلال على أن صانع العالم واحد بدلالة التمانع   المشار إليها في قوله :  لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا      [ الأنبياء : 22 ] . لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتسق على أحكام ، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما ، وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم ، وأراد الآخر إماتته ، فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض لاستحالة تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق ، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف . وإما ألا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما ، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه والإله لا يكون عاجزا .  
				
						
						
