اعلم أن لكل منهما مقاما لا يليق بالآخر :
: أما التنكير فله أسباب
أحدها : إرادة الوحدة نحو : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى [ القصص : 20 ] أي : رجل واحد . و ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل [ الزمر : 29 ] .
الثاني : إرادة النوع نحو : هذا ذكر [ ص : 49 ] أي : نوع من الذكر . وعلى أبصارهم غشاوة [ البقرة : 7 ] أي : نوع غريب من الغشاوة لا يتعارفه الناس ، بحيث غطى ما لا يغطيه شيء من الغشاوات . ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ البقرة : 96 ] أي : نوع منها ، وهو الازدياد في المستقبل ; لأن الحرص لا يكون على الماضي ولا على الحاضر .
ويحتمل الوحدة والنوعية معا قوله : والله خلق كل دابة من ماء [ النور : 45 ] أي : كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء ، وكل فرد من أفراد الدواب من فرد من أفراد النطف .
الثالث : التعظيم : بمعنى أنه أعظم من أن يعين ويعرف ، نحو : فأذنوا بحرب [ البقرة : 279 ] أي : بحرب أي حرب ولهم عذاب أليم [ البقرة : 10 ] . وسلام عليه يوم ولد [ مريم : 15 ] سلام على إبراهيم [ الصافات : 109 ] . أن لهم جنات [ البقرة : 25 ] .
الرابع : التكثير نحو : أئن لنا لأجرا [ الشعراء : 41 ] أي : وافرا جزيلا .
ويحتمل التعظيم والتكثير معا ، نحو : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل [ فاطر : 4 ] أي : رسل عظام ذوو عدد كثير .
[ ص: 568 ] الخامس : التحقير : بمعنى انحطاط شأنه إلى حد لا يمكن أن يعرف ، نحو : إن نظن إلا ظنا [ الجاثية : 32 ] أي : ظنا حقيرا لا يعبأ به ، وإلا لاتبعوه ; لأن ذلك ديدنهم ، بدليل : إن يتبعون إلا الظن [ الأنعام : 116 ] . من أي شيء خلقه [ عبس : 18 ] أي : من شيء حقير مهين ، ثم بينه بقوله : من نطفة خلقه [ عبس : 19 ] .
السادس : التقليل نحو : ورضوان من الله أكبر [ التوبة : 72 ] أي : رضوان قليل منه أكبر من الجنات ; لأنه رأس كل سعادة .
قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل
وجعل منه : الزمخشري سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [ الإسراء : 1 ] أي : ليلا قليلا ، أي : بعض ليل .
وأورد عليه : أن التقليل رد الجنس إلى فرد من أفراده ، لا تنقيص فرد إلى جزء من أجزائه ، وأجاب في " عروس الأفراح " بأنا لا نسلم أن الليل حقيقة في جميع الليلة ، بل كل جزء من أجزائها يسمى ليلا .
وعد السكاكي من الأسباب : ألا يعرف من حقيقته إلا ذلك ، وجعل منه أن تقصد التجاهل ، وأنك لا تعرف شخصه ، كقولك : هل لك في حيوان على صورة إنسان يقول : كذا ؟ وعليه من تجاهل الكفار : هل ندلكم على رجل ينبئكم [ سبإ : 7 ] كأنهم لا يعرفونه .
وعد غيره منها قصد العموم ، بأن كانت في سياق النفي ، نحو : لا ريب فيه [ البقرة : 2 ] فلا رفث [ البقرة : 197 ] الآية .
أو الشرط ، نحو : وإن أحد من المشركين استجارك [ التوبة : 6 ] .
أو الامتنان ، نحو : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] .
: وأما التعريف فله أسباب
فبالإضمار : لأن المقام مقام التكلم أو الخطاب أو الغيبة . :
وبالعلمية : لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به ، نحو : قل هو الله أحد [ الإخلاص : 1 ] . محمد رسول الله [ الفتح : 29 ] .
أو لتعظيم أو إهانة ، حيث علمه يقتضي ذلك ، فمن التعظيم : ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل ، لما فيه من المدح والتعظيم بكونه صفوة الله ، أو سري الله ، على ما سيأتي في معناه في الألقاب . ومن الإهانة قوله : تبت يدا أبي لهب [ المسد : 1 ] وفيه أيضا نكتة أخرى ، وهي الكناية عن كونه جهنميا .
[ ص: 569 ] وبالإشارة لتمييزه أكمل تمييز بإحضاره في ذهن السامع حسا ، نحو : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ لقمان : 11 ] .
وللتعريض بغباوة السامع : حتى أنه لا يتميز له الشيء إلا بإشارة الحس ، وهذه الآية تصلح لذلك .
ولبيان حاله في القرب والبعد ، فيؤتى في الأول : بنحو : هذا ، وفي الثاني : بنحو : ذلك وأولئك .
ولقصد تحقيره بالقرب ، كقول الكفار أهذا الذي يذكر آلهتكم [ الأنبياء : 36 ] أهذا الذي بعث الله رسولا [ الفرقان : 41 ] ماذا أراد الله بهذا مثلا [ البقرة : 26 ] وكقوله تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب [ العنكبوت : 64 ] .
ولقصد تعظيمه بالبعد ، نحو : ذلك الكتاب لا ريب فيه [ البقرة : 2 ] ذهابا إلى بعد درجته .
وللتنبيه - بعد ذكر المشار إليه بأوصاف قبله - على أنه جدير بما يرد بعده من أجلها ، نحو : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ البقرة : 5 ] .
وبالموصولية ، لكراهة ذكره بخاص اسمه ، إما سترا عليه ، أو إهانة له أو لغير ذلك ، فيؤتى بالذي ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول ، نحو : والذي قال لوالديه أف لكما [ الأحقاف : 17 ] . وراودته التي هو في بيتها [ يوسف : 23 ] .
وقد يكون لإرادة العموم ، نحو : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ فصلت : 30 ] الآية . والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] . إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم [ غافر : 60 ] .
وللاختصار ، نحو : لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا [ الأحزاب : 69 ] أي : قولهم إنه آدر ; إذ لو عدد أسماء القائلين لطال ; وليس للعموم ; لأن بني إسرائيل كلهم لم يقولوا في حقه ذلك .
وبالألف واللام ، للإشارة إلى معهود خارجي أو ذهني أو حضوري .
وللاستغراق حقيقة أو مجازا ، أو لتعريف الماهية ; وقد مرت أمثلتها في نوع الأدوات .
وبالإضافة لكونها أخصر طريق ، ولتعظيم المضاف ، نحو : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الحجر : 42 ] . ولا يرضى لعباده الكفر [ الزمر : 7 ] أي : الأصفياء في الآيتين ، كما قاله وغيره . ابن عباس
[ ص: 570 ] ولقصد العموم ، نحو : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] أي : كل أمر الله تعالى .