: قاعدة في السؤال والجواب
، إذا كان السؤال متوجها ، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال ، تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك . ويسميه الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال السكاكي : الأسلوب الحكيم .
وقد يجيء أنقص لاقتضاء الحال ذلك . وقد جيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال
مثال ما عدل عنه : قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] .
سألوا عن الهلال : لم يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك ، تنبيها على أن الأهم السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه . كذا قال السكاكي ومتابعوه . واسترسل التفتازاني في الكلام إلى أن قال : لأنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة .
وأقول : ليت شعري ، من أين لهم أن السؤال وقع عن غير ما حصل الجواب به ! وما المانع من أن يكون إنما وقع عن حكمة ذلك ليعلموها ؟ فإن نظم الآية محتمل لذلك ، كما أنه محتمل لما قالوه . والجواب ببيان الحكمة دليل على ترجيح الاحتمال الذي قلناه ، وقرينة ترشد إلى ذلك ; إذ الأصل في الجواب المطابقة للسؤال ، والخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل ، ولم يرد بإسناد لا صحيح ولا غيره أن السؤال وقع على ما ذكروه ، بل ورد ما يؤيد ما قلناه ، فأخرج عن ابن جرير أبي العالية قال : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله : يسألونك عن الأهلة . فهذا صريح في أنهم سألوا عن حكمة ذلك ، لا عن كيفيته من جهة الهيئة . ولا يظن ذو دين بالصحابة - الذين هم أدق فهما ، وأغزر علما - أنهم [ ص: 583 ] ليسوا ممن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة ، وقد اطلع عليها آحاد العجم الذين أطبق الناس على أنهم أبلد أذهانا من العرب بكثير ، هذا لو كان للهيئة أصل معتبر ، فكيف وأكثرها فاسد لا دليل عليه ؟ وقد صنفت كتابا في نقض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي صعد إلى السماء ، ورآها عيانا ، وعلم ما حوته من عجائب الملكوت بالمشاهدة ، وأتاه الوحي من خالقها . ولو كان السؤال وقع عما ذكروه لم يمتنع أن يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم ; كما وقع ذلك لما سألوا عن المجرة وغيرها من الملكوتيات .
نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال : وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما [ الشعراء : 23 - 24 ] ; لأن ( ما ) سؤال عن الماهية والجنس ، ولما كان هذا السؤال في حق البارئ سبحانه وتعالى خطأ ; لأنه لا جنس له فيذكر ، ولا تدرك ذاته ، عدل إلى الجواب بالصواب ، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته ، ولهذا تعجب فرعون من عدم مطابقته للسؤال ، فقال لمن حوله : ألا تستمعون [ الشعراء : 25 ] أي : جوابه الذي لم يطابق السؤال ، فأجاب موسى بقوله : ربكم ورب آبائكم الأولين [ الشعراء : 26 ] المتضمن إبطال ما يعتقدونه من ربوبية فرعون نصا ، وإن كان دخل في الأول ضمنا ، إغلاظا ، فزاد فرعون في الاستهزاء ، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا ، أغلظ في الثالث : بقوله إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 28 ] .
ومثال : قوله تعالى : الزيادة في الجواب الله ينجيكم منها ومن كل كرب [ الأنعام : 643 ] في جواب من ينجيكم من ظلمات البر والبحر [ الأنعام : 63 ] .
وقال موسى هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي [ طه : 18 ] في جواب وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] زاد في الجواب استلذاذا بخطاب الله تعالى .
وقال قوم إبراهيم : نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 71 ] في جواب : ما تعبدون [ الشعراء : 70 ] زادوا في الجواب إظهارا للابتهاج والاستمرار على مواظبتها ، ليزداد غيظ السائل .
ومثال النقص منه : قوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله [ يونس : 15 ] في جواب : ائت بقرآن غير هذا أو بدله أجاب عن التبديل دون الاختراع . قال : لأن التبديل في إمكان البشر دون الاختراع . فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال . الزمخشري
وقال غيره : التبديل أسهل من الاختراع ، وقد نفي إمكانه ، فالاختراع أولى .
تنبيه : قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت ، نحو : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ ص: 584 ] [ الإسراء : 85 ] . قال صاحب " الإفصاح " : إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا ، إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة ، فقصد اليهود أن يسألوه ، فبأي مسمى أجابهم ؟ قالوا : ليس هو ، فجاءهم الجواب مجملا ، وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم .