الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        قال : ( وقتل الخطإ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل ) لما بينا من قبل . [ ص: 376 ] قال : ( والدية في الخطإ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة ) وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وإنما أخذنا نحن والشافعي به لروايته ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا }على نحو ما قال ، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور غير أن عند الشافعي رحمه الله يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض ، والحجة عليه ما رويناه .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث الثالث :

                                                                                                        روى ابن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل الخطإ بالدية أخماسا : عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة } ، قلت : أخرجه أصحاب " السنن الأربعة " عن حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن عبد الله بن مسعود ، قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في دية الخطإ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ذكر }انتهى . بلفظ أبي داود [ ص: 377 ] وابن ماجه ، ولفظ الترمذي ، والنسائي : قضى ، كلفظ المصنف ، قال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا انتهى .

                                                                                                        قلت : هكذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن علقمة بن قيس عن عبد الله أنه قال : في الخطإ أخماس ، فذكره . وبسند السنن رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه " ، والدارقطني ، ثم البيهقي في " سننيهما " ، وأطال الدارقطني الكلام عليه ، وملخصه أنه قال : هذا حديث ضعيف ، غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث ، من وجوه :

                                                                                                        أحدها : أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ، ولا تأويل عليه أنه قال : { دية الخطإ أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون } ، لم يذكر فيه بني مخاض ، ثم أسنده عن حماد بن سلمة ثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال ، فذكره . وهذا إسناد حسن ، ورواته ثقات ; وقد روى نحوه عن علقمة عن عبد الله ، ثم أسنده كذلك ، قال : وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه ، وبمذهبه ، وبفتياه من خشف بن مالك ، ونظرائه ، وابن مسعود أتقى لربه ، وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، ويفتي بخلافه ، ألا تراه كيف فرح الفرح الشديد حين وافقت فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق ، ومن كانت هذه حاله كيف يظن به خلاف ذلك ؟ ومما يشهد لرواية أبي عبيدة ما رواه وكيع ، وعبد الله بن وهب ، وغيرهما عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه قال : دية الخطإ أخماس ، فذكره نحو أبي عبيدة ، ثم أسنده كذلك ، قال : وهذه الرواية وإن كان فيها إرسال يعني بين إبراهيم ، وابن مسعود ولكن إبراهيم النخعي من أعلم الناس بعبد الله بن مسعود وبرأيه ، وبفتياه ، قد أخذ ذلك عن أخواله : علقمة ، والأسود ، وعبد الرحمن ابني يزيد ، وغيرهم من كبار أصحاب عبد الله ، وهو القائل : إذا قلت لكم : قال عبد الله بن مسعود ، فهو عن جماعة من [ ص: 378 ] أصحابه ، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم .

                                                                                                        الوجه الثاني : أن هذا الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه عنه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود ، وهو رجل مجهول ، لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي ، وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف ، وإنما يثبت العمل عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا ، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة ، فصار حينئذ معروفا ، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد ، وانفرد بخبر ، وجب التوقف عن خبره ذلك ، حتى يوافقه عليه غيره .

                                                                                                        الوجه الثالث :

                                                                                                        أن خبر خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة ، وهو رجل مشهور بالتدليس ، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ، ولم يسمع منه ، قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة : كنت يوما عند الحجاج بن أرطاة ، فقال لي : لم أسمع من الزهري شيئا ، ولا من إبراهيم ، ولا من الشعبي ، ولا من فلان ، ولا من فلان حتى عد سبعة عشر ، أو بضعة عشر ، كلهم قد روى عنه الحجاج ، ثم زعم بعد روايته عنهم أنه لم يلقهم ، ولم يسمع منهم ، وأيضا فقد ترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وعيسى بن يونس ، بعد أن جالسوه وخبروه ، وكفاك بهم علما بالرجال ونبلا .

                                                                                                        الوجه الرابع :

                                                                                                        أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة ، فاختلفوا عليه ، فرواه عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج على اللفظ المتقدم ، ووافقه عليه عبد الواحد بن زياد ، وخالفهما يحيى بن سعيد الأموي ، وهو ثقة ، فرواه عن الحجاج عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطإ أخماسا : عشرون جذاعا ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ذكورا } ، فجعل مكان الحقاق بني لبون ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه إسماعيل بن عياش عن الحجاج بهذا الإسناد : بني لبون ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه إسماعيل بن عياش عن الحجاج بهذا الإسناد ، فقال : { خمسا جذاعا ، خمسا حقاقا ، وخمسا بنات لبون ، وخمسا بنات مخاض ، وخمسا بني لبون ذكورا } ، فجعل مكان بني المخاض بني اللبون ، موافقا لرواية أبي عبيدة عن أبيه ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه أبو معاوية الضرير ، [ ص: 379 ] وحفص بن غياث ، وعمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي ، وأبو خالد الأحمر كلهم عن الحجاج بهذا الإسناد ، قال : { دية الخطإ أخماس } ، لم يزيدوا على ذلك ، ثم أخرج رواياتهم ، ثم قال : ويشبه أن يكون هذا الصحيح ، لاتفاقهم على ذلك ، وهم ثقات ، ويشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث ، فيتوهم السامع أنه من الحديث ، ويقويه أن يحيى بن سعيد حفظ عنه : عشرين بني لبون ، مكان الحقاق ، وعبد الواحد ، وعبد الرحيم حفظا عنه : عشرين حقة ، مكان بني لبون ، كما قدمناه .

                                                                                                        الوجه الخامس :

                                                                                                        أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من المهاجرين ، والأنصار في دية الخطإ أقاويل مختلفة ، لا نعلم روي عن أحد منهم في ذلك ذكر بني مخاض ، إلا في حديث خشف بن مالك هذا ، والله أعلم انتهى .

                                                                                                        وحكى ابن الجوزي في " التحقيق " كلام الدارقطني هذا ، ثم قال : ويعارض قول الدارقطني هذا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ، فكيف جاز له أن يسكت عن ذكر هذا ، ثم إنما حكى عنه فتواه ، وخشف روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتى كان الإنسان ثقة ، فينبغي أن يقبل قوله ، وكيف يقال عن الثقة مجهول ؟ واشتراط المحدثين أن يروي عنه اثنان لا وجه له انتهى .

                                                                                                        وقال صاحب " التنقيح " : وكلام الدارقطني هذا لا يخلو من ميل ، وخشف وثقه النسائي ، وابن حبان ذكره في الثقات ، وقال الأزدي : ليس بذاك ، وقال البيهقي : مجهول ، وزيد بن جبير هو الجشمي ، وثقه ابن معين ، وغيره ، وأخرجا له في " الصحيحين " انتهى . والمصنف استدل بهذا الحديث على الشافعي في أنه يقضي بعشرين ابن لبون ، مكان ابن مخاض ، ومالك مع الشافعي ، وأحمد معنا ، واستدل ابن الجوزي في " التحقيق " لمالك ، والشافعي بما أخرجه الدارقطني عن حماد بن سلمة ثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال : دية الخطإ خمسة أخماس ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ذكور انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : إسناده حسن ، ورواته [ ص: 380 ] ثقات ثم ضعف حديث خشف بما تقدم ، وقال ابن المنذر : إنما صار الشافعي إلى قول أهل المدينة ، لأنه أقل ما قيل فيها ، والسنة وردت بمائة من الإبل مطلقة . فوجدنا قول عبد الله أقل ما قيل ، لأن بني المخاض أقل من بني اللبون ، وكأنه لم يبلغه ، واحتج الشافعي بحديث سهل بن أبي حثمة في الذي { وداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من إبل الصدقة } ، أخرجه الأئمة الستة ، وبنو المخاض لا مدخل لها في الصدقات ، وأجاب أصحابنا بأنه عليه السلام تبرع بذلك ، ولم يجعله حكما ، قال النووي في " شرح مسلم " : المختار ما قاله جمهور أصحابنا ، وغيرهم ، إن معناه أنه عليه السلام اشتراها من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ، ثم دفعوها تبرعا إلى أهل القتيل انتهى .

                                                                                                        والحديث له طرق أخرى ضعيفة :

                                                                                                        أخرجه البيهقي في " المعرفة " عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال في الخطإ أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ، قال : وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله .

                                                                                                        وعن منصور عن إبراهيم عن عبد الله ، وكذلك رواه أبو مجلز عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال البيهقي : وكلها منقطعة أبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئا ، وكذلك أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ، وإبراهيم عن عبد الله منقطع بلا شك انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية