الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 55 ] قال : ( ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها ) أما الضبع فلما ذكرنا . [ ص: 56 - 57 ] وأما الضب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عائشة رضي الله عنهاحين سألته عن أكله وهي حجة على الشافعي في إباحته ، والزنبور من المؤذيات ، والسلحفاة من خبائث الحشرات ، ولهذا لا يجب على المحرم بقتله شيء ، وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب ; لأنه منها .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        قوله : أما الضبع فلما ذكرنا ، يريد به حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع ; قلت : وفي تحريمه أحاديث : منها ما أخرجه الترمذي في " كتاب الأطعمة " عن إسماعيل بن مسلم المكي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن حبان بن جزء عن أخيه خزيمة بن جزء قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع ، فقال : أويأكل الضبع أحد فيه خير }؟ انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بالقوي ، ولا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن ابن أبي المخارق ، وقد تكلم بعضهم فيهما انتهى .

                                                                                                        وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل ضعيف ، وابن أبي المخارق ساقط ، وحبان بن جزء مجهول انتهى .

                                                                                                        وأخرجه ابن ماجه عن ابن إسحاق عن عبد الكريم بن أبي المخارق به ، { فقال : ومن يأكل الضبع }؟ انتهى .

                                                                                                        حديث آخر : رواه أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " حدثنا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن يزيد السعدي رجل من بني سعد بن بكر ، قال : سألت سعيد بن المسيب أن ناسا من قومي يأكلون الضبع ، فقال : إن أكلها لا يحل ، وكان عنده شيخ أبيض الرأس واللحية ، فقال الشيخ : يا عبد الله ألا أخبرك بما سمعت أبا الدرداء يقول فيه ؟ قلت : نعم ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي خطفة ونهبة ومجثمة وكل ذي ناب من السباع }. قال سعيد : صدق انتهى .

                                                                                                        [ ص: 56 ] أحاديث الخصوم : فيه حديث جابر أخرجه الترمذي في " الحج والأطعمة " ، والنسائي في " الصيد والذبائح " ، وابن ماجه في " الأطعمة " كلهم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار ، قال : { سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : آكلها ؟ قال : نعم ، قال : أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم }انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال في " علله " : قال البخاري : حديث صحيح انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن حبان في " صحيحه " بهذا السند والمتن في النوع الخامس والستين ، من القسم الثالث ، ورواه الحاكم في " المستدرك " عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر ، قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ، ويؤكل }انتهى . وقال : حديث صحيح ، ولم يخرجاه انتهى .

                                                                                                        واعلم أن أبا داود رواه بسند السنن ، ولم يذكر فيه الأكل ، ولفظه : قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع ، فقال : هو صيد ، ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم }انتهى . أخرجه في " الأطعمة " ووهم صاحب " التنقيح " إذ عزاه باللفظ الأول للسنن الأربعة ، ولكن أخذوا من هذا اللفظ إباحة أكله ، زاعمين أن الصيد اسم للمأكول ، ومنشأ الخلاف في قوله تعالى{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }فعند الشافعي لو قتل السبع أو نحوه ، مما لا يؤكل لا يجب عليه شيء ، وعندنا يجب عليه الجزاء ; لأن الصيد اسم للممتنع المتوحش في أصل الحلقة ، قالوا : لو كان هذا مرادا لخلا عن الفائدة ، إذ كل أحد يعرف أن الضبع ممتنعة متوحشة ، وإنما سأل جابر عن أكلها ، سيما وقد ورد التصريح بأكلها ، كما تقدم ، قلنا : هذا ينعكس عليهم ; لأنه لما سأله أصيد هي ؟ قال له : نعم ، ثم سأله آكلها ؟ قال : نعم ، فلو كان الصيد هو المأكول لم يعد السؤال ، واستدل الإمام فخر الدين في " تفسيره " على أن الصيد اسم للمأكول بقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }قال : فهذا يقتضي حل صيد البحر دائما ، وحل صيد البر في غير وقت الإحرام ، وفي البحر ما لا [ ص: 57 ] يؤكل ، كالتمساح ، وفي البر ما لا يؤكل ، كالسباع ، قال : فثبت أن الصيد اسم للمأكول ، انتهى .

                                                                                                        ولأصحابنا أن يقولوا : الصيد في الآية مصدر بمعنى الاصطياد ، وتكون الإضافة بمعنى في أي أحل لكم الصيد في البحر ، وحرم عليكم الصيد في البر بدليل أن المحرم يجوز له أكل لحم اصطاده حلال عندنا وعندهم ، فعلم أن المراد بالصيد في الآية الاصطياد لا الحيوان ; وقد ذكره المصنف كذلك فيما بعد ، في مسألة أكل السمك ، وقال : إن المراد بالصيد في قوله تعالى: { أحل لكم صيد البحر }الاصطياد ، وإلى هذه المسألة أشار صاحب الكتاب بقوله في آخر " كتاب الصيد " : والصيد لا يختص بمأكول اللحم ، قال قائلهم :

                                                                                                        صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال

                                                                                                        وهذا القائل هو علي بن أبي طالب ، قاله الإمام فخر الدين ، والله أعلم . الحديث السادس عشر : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن الضب حين سألته عن أكله }; قلت : غريب ; وأخرج أبو داود في " الأطعمة " عن إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب }انتهى . وضمضم بن زرعة شامي ، ورواية ابن عياش عن الشاميين صحيحة ، قال المنذري في " مختصره " : وإسماعيل بن عياش ، وضمضم فيهما مقال ; وقال الخطابي : ليس إسناده بذاك ، وقال ، البيهقي : لم يثبت إسناده ، إنما تفرد به إسماعيل بن عياش ، وليس بحجة انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم : أخرج البخاري ، ومسلم { عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة وهي خالته ، فوجد عندها ضبا محنوذا ، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب ، فقالت امرأة من النسوة الحضور : أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له ، قلن : [ ص: 58 ] هو الضب يا رسول الله ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، فقال خالد : أحرام الضب يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه ، فاجتررته ، فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ، فلم ينهني }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه البخاري ، ومسلم أيضا عن سعيد بن جبير { عن ابن عباس ، قال : أهدت خالته أم حفيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطا وسمنا وأضبا ، فأكل من الأقط ، والسمن ، وترك الأضب تقذرا ، قال ابن عباس : فأكل على مائدته ، ولو كان حراما لما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم }انتهى .

                                                                                                        حديث آخر : أخرجه البخاري ، ومسلم أيضا عن الشعبي عن ابن عمر ، قال : { كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد ، فذهبوا يأكلون من لحم ، فنادتهم امرأة من بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لحم ضب ، فأمسكوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلوا ، وأطعموا ، فإنه حلال ، أو قال : لا بأس به ، ولكنه ليس من طعامي }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : روى أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا زهير ثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن يزيد بن الأصم { عن خالته ميمونة ، قالت أهدي لنا ضب ، وعندي رجلان من قومي ، فصنعته ، ثم قربته إليهما ، فأكلا منه ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان ، فوضع يده فيه ، وقال : ما هذا ؟ قلنا له : ضب ، فوضع ما في يده ، وأراد الرجلان أن يضعا ما في أفواههما ، فقال لهما عليه السلام : لا تفعلا ، إنكم أهل نجد تأكلونها ، وإنا أهل تهامة نعافها }انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية