الثالث : الحقوق المشتركة ، كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأصحاب البهائم بتعهدها ، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة ، كجهره في صلاة سرية وعكسه ، وزيادة في الأذان ، يمنعه وينكر عليه ، ومن تصدى للتدريس ، أو الوعظ وليس هو من أهله ، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، أنكر عليه المحتسب ، وشهر أمره لئلا يغتر به ، وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس ، لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال ، فهو موضع ريبة ، فينكر ويقول : وإن كانت محرما لك ، فصنها عن مواقف الريب ، ولا ينكر في حقوق الآدميين ، كتعديه في جدار جاره إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم ، وقصروا في النظر والخصومات . والسوقي الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته ، فإن ظهرت منه خيانة ، منع من معاملتهن ، وهذا باب لا تتناهى صوره .
قلت : بإجماع الأمة ، [ ص: 219 ] وهو من أعظم قواعد الإسلام ، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد ، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه ، بل يجب عليه الأمر والنهي ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وليس الواجب عليه أن يقبل منه ، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى : ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ما على الرسول إلا البلاغ ) قالوا : ومن أمثلته : أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام ونحو ذلك ، ، مجتنبا ما ينهى عنه ، بل عليه الأمر والنهي في حق نفسه ، وفي حق غيره ، فإن أخل بأحدهما ، لم يجز الإخلال بالآخر ، ولا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب ، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم ، قال إمام الحرمين : والدليل عليه إجماع المسلمين ، فإن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية ، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح ولا يشترط في الآمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به مسلم : " " قال أصحابنا : وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف بحسب الأشياء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة ، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال ، ومما يتعلق بالاجتهاد ، لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره ، بل ذلك للعلماء ، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بأن ذلك مجمع عليه ، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ؛ لأن كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ولا نعلمه ، ولا إثم على المخطئ ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب ، ويكون برفق ؛ لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة [ ص: 220 ] ثابتة ، أو وقوع في خلاف آخر ، وذكر من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه الماوردي خلافا في أن إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره ؟ والأصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه ، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه ، وإنما ينكرون ما خالف نصا ، أو إجماعا ، أو قياسا جليا . من قلده السلطان الحسبة ، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف العلماء فيه
وأما ، فضابطه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صفة النهي عن المنكر ومراتبه " فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان ، وقد سبق في كتاب الغصب ، صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات ، وينبغي فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله ، وإزالة المنكر ، وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال ، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب ، فإن عجز ، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة ، وقد تقدم هذا في كتاب الصيال ، فإن عجز عن كل ذلك ، فعليه أن يكرهه بقلبه ، قال أصحابنا وغيرهم : أن يرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره ، بل إن رأى شيئا غيره ، قال وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون الماوردي : فإن غلب على ظن المحتسب أو غيره استسرار قوم بالمنكر بأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان ، أحدهما : أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها ، بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز التجسس والإقدام على الكشف والإنكار ، والثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز فيه الكشف والتجسس . [ ص: 221 ] واعلم أنه لا إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله ، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع . والله أعلم . يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر