الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ تعرض شروط الواقفين على كتاب الله ]

فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله - سبحانه - وعلى شرطه ، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح ، وما خالفه كان شرطا باطلا مردودا ، ولو كان مائة شرط ، وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ، ومن رد فتوى المفتي ، وقد نص الله - سبحانه - على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها ، مع أن الوصية تصح في غير قربة ، وهي أوسع من الوقف ، وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره ، فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه .

ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن [ ص: 238 ] قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح ، وإنما غرضهم ما يقربهم إلى الله ، ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بضعها للزوج بشرط وفائه لها بها ، ولها فيه أصح غرض ومقصود ، وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء به بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة ؟

[ خطأ القول بأن شرط الواقف كنص الشارع ] : ثم من العجب العجاب قول من يقول : إن شروط الواقف كنصوص الشارع ، ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ، ونعتذر مما جاء به قائله ، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدا ، وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة ، وتخصيص عامها بخاصها ، وحمل مطلقها على مقيدها ، واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها ، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم ، فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع ، بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك ، فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال ، فقد ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات ، وخروجهم فيها عن موجب القياس الصحيح والسنة ، وبالله التوفيق .

يوضح ذلك { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قسم يعطي الآهل حظين والعزب حظا ، وقال ثلاثة حق على الله عونهم } ذكر منهم الناكح يريد العفاف ، ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده ، فقالوا : نعطيه ما دام عزبا ، فإذا تزوج لم يستحق شيئا ، ولا يحل لنا أن نعينه ; لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله ، فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم أو الصلاة لا يحل مخالفته ، ومن خالفه كان عاصيا آثما ، حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارا مثابا قائما بالواجب عليه ،

يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله أنكم قلتم : كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل ، حتى أبطلتم بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها ، وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة ، وأبطلتم اشتراط الخيار فوق ثلاثة ، وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النص ، والآثار عن الصحابة ، والقياس . كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها ، ودلت [ ص: 239 ] السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط ، وكما صححت السنة اشتراط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة ، فأبطلتم ذلك ، وقلتم : يخالف مقتضى العقد ، وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الوقف لعقد الوقف ، إذ هو عقد قربة مقتضاه التقرب إلى الله - تعالى - ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة يناقضه مناقضة صريحة ، فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يصلي فيه إلا هو وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فعدوله عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قدمه وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرا اتباعا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج عن محض القياس ، وبالله التوفيق .

يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن العبادة في المسجد من الذكر والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند القبور ، فإذا منعتم فعلها في بيوت الله - سبحانه - وأوجبتم على الموقوف عليه [ فعلها ] بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف وإلا كان تناوله حراما كنتم قد ألزمتموه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد ، والعدول إلى الأنقص المفضول أو المنهي عنه مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلا وقصد الواقف إجمالا فإنه إنما يقصد الأرضى لله والأحب إليه ، ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه ، فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع ، وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله ومقصوده في نفسه أو لا ، ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدا ، فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر ، أو شرط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار ، أو شرط على الفقهاء ألا يجاهدوا في سبيل الله ولا يصوموا تطوعا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك ، فهل يمكنكم تصحيح هذه الشروط ؟ فإن أبطلتموها فعقد النكاح أفضل من بعضها ، أو مساو له في أصل القربة ، وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل ، وذكر الله وقراءة القرآن في المسجد أفضل منه بين القبور ، فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك ؟ فما هو الفارق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ؟

ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزب فأبحتم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسمونه بينهما ؟ أم ماذا تقدمون : ما أوجبه من الله ورسوله من المبيت والقسم للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول الإيواء المطلوب من النكاح ، أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء به ألزم ؟ أم تمنعونه من النكاح والشارع والواقف لم يمنعاه منه ؟ فالحق أن مبيته عند أهله إن كان أحب إلى الله ورسوله جاز له ، بل استحب ترك شرط [ ص: 240 ] الواقف لأجله ، ولم يمنعه فعل ما يحبه الله ورسوله من تناول الوقف ، بل ترك ما أوجبه سببا لاستحقاق الوقف ، فلا نص ولا قياس ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة لله ورسوله .

والمقصود بيان بعض ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي هو من عند غير الله ; لأن ما كان من عنده فإنه يصدق بعضه بعضا ، ولا يخالف بعضه بعضا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية