الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2308 13 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة ، فوالذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : فيقاصون مظالم كانت بينهم ، وإسحاق بن إبراهيم هو المعروف بابن راهويه ، ومعاذ بن هشام البصري سكن ناحية اليمن ، يكنى أبا عبد الله ، وأبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، ودستواء من ناحية الأهواز ، كان يبيع الثياب التي تجلب منها ، فنسب إليها ، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة ، وأبو المتوكل علي بن دؤاد بضم الدال المهملة الأولى الناجي بالنون وبالجيم ، وأبو سعيد الخدري سعيد بن مالك .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الرقاق عن الصلت بن محمد ، عن يزيد بن زريع ، وقد ترجم هناك في باب القصاص يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إذا خلص المؤمنون " بفتح اللام أي إذا سلموا ونجوا من النار ، والمراد بعض المؤمنين ، قوله : " حبسوا " على صيغة المجهول أي عرفوا ، قوله : " بقنطرة " قال ابن التين : القنطرة كل شيء ينصب على عين أو واد ، وقال الهروي : سمي البناء قنطرة لتكاثف بعض البناء على بعض ، وسماها القرطبي الصراط الثاني والأول لأهل المحشر كلهم ، إلا من دخل الجنة بغير حساب أو يلتقطه عنق من النار ، فإذا خلص من خلص من الأكبر ، ولا يخلص منه إلا المؤمنون حبسوا على صراط خاص بهم ، ولا يرجع إلى النار من هذا أحد ، وهو معنى قوله : " إذا خلص المؤمنون من النار " أي من الصراط المضروب على النار ، وقال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فإذا هذبوا قال لهم رضوان : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين قوله : " بين الجنة والنار " أي بقنطرة كائنة بين الجنة والصراط الذي على متن النار ، ولهذا سمي بالصراط الثاني ، وبهذا يرد على بعضهم في قوله : " بقنطرة الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة ، ويحتمل أن يكون من غيره بين الصراط والجنة انتهى . قلت : سبحان الله ما هذا التصرف بالتعسف ، فإن الحديث مصرح بأن تلك القنطرة بين الجنة والنار ، وهو يقول : إنها طرف الصراط ، وطرف الصراط من الصراط ، وقوله : " بين " يدل على أنها قنطرة مستقلة غير متصلة بالصراط ، وهذا هو المعنى قطعا ، وجعل هذا القائل هذا المعنى بالاحتمال وما غر هذا القائل إلا حكاية ابن التين عن الداودي أن القنطرة هنا يحتمل أن تكون طرف الصراط ، والكرماني أيضا تصرف هنا قريبا من كلام الداودي حيث قال : قوله : " قنطرة " فإن قلت هذا يشعر بأن في القيامة جسرين ، هذا والآخر على متن جهنم المشهور بالصراط قلت : لا محذور فيه ، ولئن ثبت بالدليل أنه واحد فلا بد من تأويله أن هذه القنطرة من تتمة الصراط وذنابته ونحو ذلك انتهى ، قلت : سبحان الله فلا حاجة إلى هذا السؤال بقوله يشعر إلى آخره; لأنه ينادي بأعلى صوته أن [ ص: 286 ] القنطرة المذكورة غير الصراط ولا من تتمته كما ذكرنا ، وقوله : ولئن ثبت ولم يثبت ذلك فلا حاجة إلى التأويل الذي ذكره ، قوله : " فيتقاصون " بتشديد الصاد المهملة من القصاص يعني يتبع بعضهم بعضا فيما وقع بينهم من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا في كل نوع من المظالم المتعلقة بالأبدان والأموال ، وقال ابن بطال : المقاصة في هذا الحديث هي لقوم دون قوم ، هم قوم لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم; لأنها لو استغرقت جميع حسناتهم لكانوا ممن وجب لهم العذاب ، ولما جاز أن يقال فيهم خلصوا من النار ، فمعنى الحديث والله أعلم على الخصوص لمن لم يكن لهم تبعات يسيرة ، إذ المقاصة أصلها في كلام العرب مقاصصة ، وهي مفاعلة ، ولا يكون أبدا إلا بين اثنين كالمشاتمة والمقاتلة ، فكان لكل واحد منهم على أخيه مظلمة ، وعليه له مظلمة ، ولم يكن في شيء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات ، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته ، فيدخلون الجنة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد منهم من الحسنات ، فلهذا يتقاصصون بعد خلاصهم من النار; لأن أحدا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تباعة ، وقال المهلب : هذه المقاصة إنما تكون في المظالم في الأبدان من اللطمة وشبهها مما يمكن فيه أداء القصاص بحضور بدنه ، فيقال للمظلوم : إن شئت أن تنتصف ، وإن شئت أن تعفو ، وقال غيره : لا قصاص في الآخرة في العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات ، قيل : فيه نظر لأن أبا الفضل ذكر في كتاب الترغيب والترهيب بسند صالح ، عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا فرغ الله من القضاء أقبل على البهائم حتى إنه ليجعل للجماء التي نطحتها القرناء قرنين فتنطح بهما الأخرى ، ويقال : معنى يتقاصون يتتاركون; لأنه ليس موضع مقاصة ولا محاسبة ، لكن يلقي الله عز وجل في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض ، أو يعوض الله بعضهم من بعض ، قوله : " حتى إذا نقوا " بضم النون وتشديد القاف من التنقية ، وهو إفراد الجيد من الرديء ، ووقع للمستملي هنا حتى إذا تقصوا بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الصاد المهملة أي أكملوا التقاص ، قوله : " وهذبوا " على صيغة المجهول من التهذيب ، وهو التخليص من الآثام بمقاصصة بعضهم ببعض ، ويشهد لهذا الحديث ، قوله : " في حديث جابر رضي الله تعالى عنه الآتي ذكره في التوحيد ، لا يحل لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد قبله مظلمة .

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت) ذكر الدارقطني حديثا فيه أن الجنة بعد الصراط ، وهذا يعارض حديث القنطرة ، قلت : لا ، لأن المراد بعد الصراط الثاني هو القنطرة كما ذكرنا ، فإن قلت : صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أصحاب الحشر محبوسون بين الجنة والنار; يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم ، وهذا يعارض حديث الباب قلت : لا; لأن معناهما مختلف لاختلاف أحوال الناس; لأن من المؤمنين من لا يحبسون ، بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة ، قوله : " لأحدهم " اللام فيه للتأكيد ، وهي مفتوحة ، وأحدهم مرفوع بالابتداء فخبره ، قوله : أدل بمنزله الذي كان في الدنيا . قال المهلب : إنما كان أدل لأنهم عرفوا مساكنهم بتعريضها عليهم بالغداة والعشي ، فإن قلت : يعارض هذا ما روي عن عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة ، قلت : لا تعارض ، فإن هذا يكون ممن لم يحبس على القنطرة ولم يدخل النار أو يخرج منها ، فيطرح على باب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع ، فإذا وصلت بهم الملائكة كان كل أحد عرف بمنزله ، وهو معنى قوله تعالى : ويدخلهم الجنة عرفها لهم وقال أكثر أهل التفسير : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم : تفرقوا إلى منازلكم ، فهم أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا ، وقيل : إن هذا التعريف إلى المنازل بدليل ، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه ، وحديث الباب يرده فلينظر .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية