الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2104 160 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال : حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هاجر إبراهيم - عليه السلام - بسارة ، فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك ، أو جبار من الجبابرة ، فقيل : دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء ، فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التي معك ؟ قال : أختي ، ثم رجع إليها ، فقال : لا تكذبي حديثي ، فإني أخبرتهم أنك أختي ، والله إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك ، فأرسل بها إليه فقام إليها ، فقامت توضأ وتصلي فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي الكافر ، فغط حتى ركض برجله . قال الأعرج : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : إن أبا هريرة قال : قالت : اللهم إن يمت يقال : هي قتلته ، فأرسل ، ثم قام إليها فقامت توضأ وتصلي وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي هذا الكافر ، فغط حتى ركض برجله . قال عبد الرحمن : قال أبو سلمة : قال أبو هريرة : فقالت : اللهم إن يمت فيقال هي قتلته ، فأرسل في الثانية أو في الثالثة ، فقال : والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها آجر ، فرجعت إلى إبراهيم - عليه السلام - فقالت : أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : "أعطوها هاجر" ، فقبلتها سارة ، فهذه هبة من الكافر إلى المسلم ، فدل ذلك على جواز تصرف الكافر في ملكه ، ورجاله كلهم قد ذكروا غير مرة ، وأبو اليمان بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف الميم الحكم بن نافع الحمصي ، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي ، وأبو الزناد بالزاي والنون عبد الله بن ذكوان ، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز . والحديث أخرجه البخاري أيضا في الهبة وفي الإكراه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) ، قوله : هاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بسارة ، أي : سافر بها ، وسارة بتخفيف الراء بنت توبيل بن ناحور ، وقيل : سارة بنت هاران بن ناحور ، وقيل : بنت هاران بن تارخ ، وهي بنت أخيه على هذا وأخت لوط ، قاله العتبي في ( المعارف ) والنقاش في التفسير ، قال : وذلك أن نكاح بنت الأخ كان حلالا إذ ذاك ، ثم إن النقاش نقض هذا القول ، فقال في تفسير قوله - عز وجل - شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا : إن هذا يدل على تحريم بنت الأخ على لسان نوح عليه الصلاة والسلام . قال السهيلي : هذا هو الحق ، وإنما توهموا أنها بنت أخيه ; لأن هاران أخوه ، وهو هاران الأصغر ، وكانت هي بنت هاران الأكبر ، وهو عمه ، قوله : فدخل بها قرية القرية من قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها وتجمع [ ص: 31 ] على قرى ، قال الداودي : القرية تقع على المدن الصغار والكبار ، وقال ابن قتيبة : القرية الأردن ، والملك صادوق ، وكانت هاجر لملك من ملوك القبط ، وعند الطبري : كانت امرأة ملك من ملوك مصر ، فلما قتله أهل عين شمس احتملوها معهم ، وزعم أن الملك الذي أراد سارة اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن هشام في كتاب التيجان : إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خرج من مدين إلى مصر ، وكان معه من المؤمنين ثلاثمائة وعشرون رجلا ، وبمصر ملكها عمرو بن امرئ القيس بن نابليون بن سبأ . قوله : أو جبار شك من الراوي ، والجبار يطلق على ملك عات ظالم ، قوله : فقيل دخل إبراهيم بامرأة ، وقال ابن هشام : وشى به حناط كان إبراهيم يتمار منه ، فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ، ثم نحى إبراهيم وقام إلى سارة ، فلما صار إبراهيم - عليه السلام - خارج القصر جعله الله له كالقارورة الصافية ، فرأى الملك وسارة وسمع كلامهما ، فهم عمرو بسارة ومد يده إليها فيبست ، فمد الأخرى فكذلك ، فلما رأى ذلك كف عنها .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن هشام : وكان الحناط أخبر الملك بأنه رآها تطحن ، فقال الملك : يا إبراهيم ما ينبغي لهذه أن تخدم نفسها فأمر له بهاجر ، قوله : قال أختي يعني في الدين .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الجوزي : على هذا الحديث إشكال ما زال يختلج في صدري ، وهو أن يقال : ما معنى توريته عليه السلام عن الزوجة بالأخت ، ومعلوم أن ذكرها بالزوجية كان أسلم لها ; لأنه إذا قال هذه أختي ، قال زوجنيها ، وإذا قال امرأتي سكت ، هذا إن كان الملك يعمل بالشرع ، فأما إذا كان كما وصف من جوره فما يبالي إذا كانت زوجة أو أختا ، إلى أن وقع لي أن القوم كانوا على دين المجوس ، وفي دينهم أن الأخت إذا كانت زوجة كان أخوها الذي هو زوجها أحق بها من غيره ، فكأن الخليل - عليه السلام - أراد أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذي يستعمله ، فإذا هو جبار لا يراعي جانب دينه ، قال : واعترض على هذا بأن الذي جاء على مذهب المجوس زرادشت ، وهو متأخر عن هذا الزمن ، فالجواب : إن لمذهب القوم أصلا قديما ادعاه زرادشت ، وزاد عليه خرافات أخر ، وقد كان نكاح الأخوات جائزا في زمن آدم - عليه السلام - ، ويقال : كانت حرمته على لسان موسى - عليه الصلاة والسلام - ، قال : ويدل على أن دين المجوس له أصل ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر ، ومعلوم أن الجزية لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب ، ثم سألت عن هذا بعض علماء أهل الكتاب ، فقال : كان من مذهب القوم أن من له زوجة لا يجوز له أن يتزوج إلا أن يهلك زوجها ، فلما علم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - هذا قال : هي أختي ، كأنه قال : إن كان الملك عادلا فخطبها مني أمكنني دفعه ، وإن كان ظالما تخلصت من القتل ، وقيل : إن النفوس تأبى أن يتزوج الإنسان بامرأة وزوجها موجود ، فعدل - عليه السلام - عن قوله زوجتي ; لأنه يؤدي إلى قتله أو طرده عنها أو تكليفه لفراقها ، وقال القرطبي : قيل : إن من سيرة هذا الجبار أنه لا يغلب الأخ على أخته ، ولا يظلمه فيها ، وكان يغلب الزوج على زوجته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : إن على الأرض كلمة إن بكسر الهمزة وسكون النون للنفي ، يعني والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك ، قوله : وغيرك بالجر عطفا على غيري ، ويروى بالرفع بدلا عن المحل ، ويروى "من يؤمن" بكلمة "من" الموصولة ، وصدر صلتها محذوف تقديره : والله الذي على الأرض ليس بمؤمن غيري وغيرك . قوله : فقامت توضأ برفع الهمزة في محل النصب على الحال ، وتصلي عطف عليه ، قوله : اللهم إن كنت آمنت قيل : شرط مدخول أن كونه مشكوكا فيه ، والإيمان مقطوع به ، وأجيب بأنها كانت قاطعة به ، ولكنها ذكرته على سبيل الفرض هاهنا هضما لنفسها .

                                                                                                                                                                                  قوله : فغط قال ابن التين : ضبط في بعض الأصول بفتح الغين والصواب بالضم ، كذا في بعض الأصول . قلت : هو بالغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة ، ومعناه أخذ مجاري نفسه حتى سمع له غطيط ، يقال : غط المخنوق ، إذا سمع غطيطه . قوله : حتى ركض برجله ، أي : حركها وضربها على الأرض . قوله : قال الأعرج هو المذكور في السند ، وهو عبد الرحمن بن هرمز ، قال أبو سلمة : إن أبا هريرة قال : قالت اللهم إن يمت ( ح ) ، هو موقوف ظاهرا ، وكذا ذكره صاحب الأطراف ، وكان أبا الزناد روى القطعة الأولى مسندة وهذه موقوفة .

                                                                                                                                                                                  قوله : يقال هي قتلته ويروى : يقل هي قتلته ، وهو الظاهر لوجوب الجزم فيه ، ووجه رواية يقال هو إما أن الألف حصلت من إشباع الفتحة ، وإما أنه كقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت بالرفع في قراءة بعضهم ، وقال الزمخشري : قيل : هو بتقدير الفاء . قلت : تقديره فيدرككم الموت ، وكذلك [ ص: 32 ] هنا يكون التقدير فيقال . قوله : في الثانية ، أي : أرسل سارة في المرة الثانية . قوله : أو في الثالثة شك من الراوي ، أي : أو أرسلها في المرة الثالثة . قوله : إلا شيطانا ، أي : متمردا من الجن ، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم ، ويقال : سبب قوله ذلك ، أنه جاء في بعض الروايات : لما قبضت يده عنها قال لها : ادعي لي ، فقال ذلك لئلا يتحدث بما ظهر من كرامتها فتعظم في نفوس الناس وتتبع ، فلبس على السامع بذكر الشيطان .

                                                                                                                                                                                  قوله : ارجعوا بكسر الهمزة ، أي : ردوها إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - . قوله : وأعطوها آجر ، أي : أعطوا سارة آجر ، وهي الوليدة اسمها آجر بهمزة ممدودة وجيم مفتوحة ، وفي آخره راء ، واستعملوا الهاء موضع الهمزة فقيل : هاجر ، وهي أم إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - كما أن سارة أم إسحاق - عليه الصلاة والسلام - ، وقيل : إن هاجر من حقن من كورة أنصنا . قوله : قلت حقن بفتح الحاء المهملة وسكون القاف ، وفي آخره نون ، وهو اسم لقرية من صعيد مصر ، قاله ابن الأثير .

                                                                                                                                                                                  قلت : هو كفر من كفور كورة أنصنا بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الصاد المهملة ، ثم نون ثانية وألف مقصورة ، وهي بلدة بالصعيد الأوسط على شط النيل من البر الشرقي في قبالة الأشمونيين من البر الآخر ، وبها آثار عظيمة ومزدرع كثير ، وقال اليعقوبي : هي مدينة قديمة يقال : إن سحرة فرعون كانوا فيها .

                                                                                                                                                                                  قوله : أشعرت ، أي : أعلمت ، تخاطب إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - . قوله : كبت الكافر ، أي : رده خاسئا خائبا ، وقيل : أحزنه ، وقيل : أغاظه ; لأن الكبت شدة الغيظ ، وقيل : صرعه ، وقيل : أذله ، وقيل : أخزاه ، وقيل : أصله كبد ، أي : بلغ الهم كبده ، فأبدل من الدال تاء . قوله : وأخدم وليدة ، أي : أعطي خادما ، أي : أعطاها أمة تخدمها ، والوليدة تطلق على الجارية وإن كانت كبيرة ، وفي الأصل : الوليد الطفل ، والأنثى وليدة ، والجمع ولائد ، فافهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه إباحة المعارض لقوله : "إنها أختي" ، وإنها مندوحة عن الكذب ، وفيه أن أخوة الإسلام أخوة تجب أن يتسمى بها ، وفيه الرخصة في الانقياد للظالم أو الغاصب ، وفيه قبول صلة السلطان الظالم وقبول هدية المشرك ، وفيه إجابة الدعاء بإخلاص النية وكفاية الرب جل جلاله لمن أخلصها بما يكون نوعا من الآفات ، وزيادة في الإيمان تقوية على التصديق والتسليم والتوكل .

                                                                                                                                                                                  وفيه ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم ، وفيه أن من قال لزوجته أختي ولم ينو شيئا لا يكون طلاقا ، وكذلك لو قال مثل أختي ، لا يكون ظهارا ، وفيه أخذ الحذر مع الإيمان بالقدر ، وفيه مستند لمن يقول إن طلاق المكره لا يقع وليس بشيء ، وفيه الحيل في التخلص من الظلمة ، بل إذا علم أنه لا يتخلص إلا بالكذب جاز له الكذب الصراح ، وقد يجب في بعض الصور بالاتفاق لكونه ينجي نبيا أو وليا ممن يريد قتله ، أو لنجاة المسلمين من عدوهم . وقال الفقهاء : لو طلب ظالم وديعة لإنسان ليأخذها غصبا ، وجب عليه الإنكار والكذب في أنه لا يعلم موضعها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية