الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مسير إبراهيم وقتله

ثم إن إبراهيم عزم على المسير ، فأشار أصحابه البصريون أن " تقيم وترسل الجنود ، فيكون إذا انهزم لك جند أمددتهم بغيرهم ، فخيف مكانك ، واتقاك عدوك ، وجبيت الأموال ، وثبت وطأتك " .

فقال من عنده من أهل الكوفة : إن بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك ، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى . فسار عن البصرة إلى الكوفة .

وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر قال : والله ما أدري كيف أصنع ! ما في عسكري إلا ألفا رجل ، فرقت جندي : مع المهدي بالري ثلاثون ألفا ، ومع محمد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفا ، والباقون مع عيسى بن موسى ، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا .

ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعا ، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة ، فتركها وعاد . وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري ، فقال له المنصور : اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنك جمعه ، فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان ! فثق بما أقول .

وضم [ ص: 139 ] إليه غيره من القواد . وكتب إلى المهدي يأمره بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز ، فسيره في أربعة آلاف فارس ، فوصلها وقاتل المغيرة ، فرجع المغيرة إلى البصرة ، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا .

وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد ، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صيحة ، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد :


وجعلت نفسي للرماح دريئة إن الرئيس لمثل ذاك فعول

ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها ، وبقي المنصور على مصلاه خمسين يوما ينام عليه ، وجلس عليه ، وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها ، لا غيرها ولا هجر المصلى ، إلا أنه كان إذا ظهر للناس لبس السواد فإذا فارقهم رجع إلى هيئته .

وأهديت إليه امرأتان من المدينة ، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد ، فلم ينظر إليهما ، فقيل له : إنهما قد ساءت ظنونهما . فقال : ليست هذه أيام نساء ، ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأس إبراهيم لي ، أو رأسي له .

قال الحجاج بن قتيبة : لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلما عليه وقد أتاه خبر البصرة ، والأهواز ، وفارس ، وعساكر إبراهيم قد عظمت ، وبالكوفة مائة ألف سيف بإزاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به ، فرأيته أحوذيا مشمرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ( فقام بها ) ، ولم تقعد به نفسه .

وإنه كما قال الأول :


نفس عصام سودت عصاما     وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما

.

ثم وجه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا ، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف ، وقال له لما ودعه : إن هؤلاء الخبثاء ، يعني المنجمين ، [ ص: 140 ] يزعمون أنك إذا لاقيت إبراهيم يجول أصحابك جولة حتى تلقاه ، ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك .

ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سرا فسمع أصوات الطنابير ، ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضا ، فقال : ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا ! وسمع ينشد في طريقه أبيات القطامي :


أمور لو يدبرها حليم     إذا لنهى وهيب ما استطاعا
ومعصية الشقيق عليك مما     يزيدك مرة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه     وليس بأن تتبعه اتباعا
ولكن الأديم إذا تفرى     بلى وتعيبا غلب الصناعا

. فعلموا أنه نادم على مسيره .

وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف ، وقيل : كان معه في طريقه عشرة آلاف .

وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذي فيه عيسى ، ويقصد الكوفة فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه ، ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان ، فلم يفعل .

فقيل له ليبيت عيسى . فقال : أكره البيات إلا بعد الإنذار . وقال بعض أهل الكوفة ليأمره بالمسير إليها ليدعو إليه الناس ، وقال : أدعوهم سرا ثم أجهر ، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان .

فاستشار بشيرا الرحال ، فقال : لو وثقنا بالذي تقول لكان رأيا ، ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل إليهم المنصور الخيل ، فيأخذ البريء والصغير والمرأة ، فيكون ذلك تعرضا للمأثم .

فقال الكوفي : كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقون قتل الضعيف والمرأة والصغير ! أولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث سراياه ليقاتل ويكون نحو هذا ؟ قال بشير : أولئك كفار وهؤلاء مسلمون .

[ ص: 141 ] واتبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرى ، وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخا ، ( مقابل عيسى بن موسى ) ، فأرسل إليه سلم بن قتيبة : إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت ، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد ، فإن أنت لم تفعل فقد أغرى أبو جعفر عسكره ، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه .

فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك ، فقالوا : نخندق على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم ! لا والله لا نفعل .

قال : فنأتي أبا جعفر . قالوا : ولم وهو في أيدينا متى أردنا ؟ فقال إبراهيم للرسول : أتسمع ؟ فارجع راشدا .

ثم إنهم تصافوا ، فصف إبراهيم أصحابه صفا واحدا ، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس ، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس ، فإن الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره . فقال الباقون : لا نصف إلا صف أهل الإسلام ، يعني قول الله تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ) الآية .

فاقتتل الناس قتالا شديدا ، وانهزم حميد بن قحطبة ، وانهزم الناس معه ، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه . فأقبل حميد منهزما ، فقال له عيسى : الله الله والطاعة ! فقال : لا طاعة في الهزيمة ! ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير .

فقيل له : لو تنحيت عن مكانك حتى تئوب إليك الناس فتكر بهم . فقال : لا أزول عن مكاني هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي ، والله لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبدا وقد انهزمت عن عدوهم ! وجعل يقول لمن يمر به : أقرئ أهل بيتي السلام وقل لهم لم أجد فدى أفديكم به أعز من نفسي ، وقد بذلتها دونكم !

فبينا هم على ذلك لا يلوي أحد على أحد إذ أتى جعفر ، ومحمد ابنا سليمان بن علي من ظهور أصحاب إبراهيم ، ولا يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم ، فعطفوا نحوه ، ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم ، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم ، فلولا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة .

وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا [ ص: 142 ] مخاضة ، فعادوا بأجمعهم ، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد ، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار ، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة ، وقيل أربعمائة ، وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرءوس إلى عيسى ، وجاء إبراهيم سهم عائر فوقع في حلقه فنحره ، فتنحى عن موقفه وقال : أنزلوني ، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول : ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) ، أردنا أمرا وأراد الله غيره .

واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه ، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه : شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم ، وتعلموا ما اجتمعوا عليه ، فشدوا عليهم ، فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم وخلصوا إليه ، وحزوا رأسه فأتوا به عيسى ، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري فقال : نعم هذا رأسه . فنزل عيسى إلى الأرض ، فسجد وبعث برأسه إلى المنصور .

وكان قتله يوم الإثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة ، وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة ، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام .

وقيل : كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادي إبراهيم : ألا لا تتبعوا مدبرا ! فرجعوا ، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم ، وكانت الهزيمة .

وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولا ، فعزم على إتيان الري ، فأتاه نوبخت المنجم وقال : يا أمير المؤمنين ، الظفر لك ، وسيقتل إبراهيم ! فلم يقبل منه .

فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم ، فتمثل :


فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قر عينا بالإياب المسافر

.

فأقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر جوبر .

وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه ، فلما رآه بكى حتى خرجت [ ص: 143 ] دموعه على خد إبراهيم ثم قال : أما والله إني كنت لهذا كارها ! ولكنك ابتليت بي وابتليت بك ! .

ثم جلس مجلسا عاما وأذن للناس . فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسيء القول فيه ، ويذكر فيه القبيح التماسا لرضاء المنصور ، والمنصور ممسك متغير لونه .

حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ، ثم قال : أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك ، وغفر له ما فرط فيه في حقك ! فأسفر لون المنصور وأقبل عليه وقال : يا أبا خالد مرحبا [ وأهلا ] هاهنا ! فعلم الناس أن ذلك يرضيه ، فقالوا مثل قوله .

وقيل : لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس ، فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه ، وضرب حتى خمد ، وأمر به فجروا رجله فألقوه خارج الباب .

وقيل : ونظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكبا فقال : لله العجب كيف يفلتني ابن الفاعلة !

انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية