الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد ؟ ]

الخطأ الرابع لهم : اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل . وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه ، وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم .

والفرق بينهما أن الله - سبحانه - لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ، فإن العبادة حقه على عباده ، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه ، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ، ولهذا نعى الله - سبحانه - على المشركين مخالفة هذين الأصلين - وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه - وهو - سبحانه - لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ، فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه ، وما سكت عنه فهو عفو ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا [ ص: 260 ] يجوز القول بتحريمها ، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال ، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟ وقد أمر الله - تعالى - بالوفاء بالعقود والعهود كلها ، فقال - تعالى - : { وأوفوا بالعهد } وقال : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقال : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال - تعالى - : { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } وقال - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وقال : { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال : { إن الله لا يحب الخائنين } وهذا كثير من القرآن .

وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر } وفيه من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان } وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان } وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج } وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال : { بعثني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، والله إني لا أرجع إليهم أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع إليهم ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال : فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، } وفي صحيح مسلم عن { حذيفة قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمدا فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر ، فقال : انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم } وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال : { دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها ، فقالت : تعال أعطك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت : أعطيه تمرا ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة } .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله - عز وجل - : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : [ ص: 261 ] رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره } . { وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام وهذا عقد كان قبل الشرع } .

وقال ابن وهب : ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأي المؤمن واجب } قال ابن وهب : وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ولا تعد أخاك عدة وتخلفه ، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة } قال ابن وهب : وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قال لصبي تعال هذا لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة } وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه : { المؤمنون عند شروطهم } وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه { الناس على شروطهم ما وافق الحق } وليست العمدة على هذين الحديثين ، بل على ما تقدم .

فصل [ أجوبة المانعين ]

وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج : تارة بنسخها ، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط ، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه ، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق } " وكقوله { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وكقوله - تعالى - : { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } ونظائر هذه الآية .

قالوا : فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته ، قالوا : وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة : إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله ، أو تحريم ما أباحه ، أو إسقاط ما أوجبه ، أو إيجاب ما أسقطه ، ولا خامس لهذه الأقسام ألبتة ، فإن ملكتم المشترط والمعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين ، وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم ، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه ؟ ولن تجدوا إليه سبيلا [ ص: 262 ]

فصل [ رد الجمهور على أجوبة المانعين ]

قال الجمهور : أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله ، ولا يحل العمل بها ، وتجب مخالفتها ، وليس معكم برهان قاطع بذلك ، فلا تسمع دعواه ، وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم ؟ .

وأما تخصيصها فلا وجه له ، وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم ، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله .

وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة .

وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض ، وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله : " ما كان من شرط ليس في كتاب الله " ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا ، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن ، بل علمت من السنة ، فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه كقوله : { كتاب الله عليكم } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { : كتاب الله القصاص في كسر السن } فكتابه - سبحانه - يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله ، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا ، فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حكم بأن الولاء للمعتق ، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله ، ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما ؟ وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه ، لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه ، بل تحريمه هو نفي تعدي حدوده .

وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق ، وهو ما أباح الله - سبحانه - للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياها ، فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حراما عليه ، أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له ، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا ، أو يسقط [ وجوبه ] بعد وجوبه ، وليس في ذلك تغيير لأحكامه ، بل كل ذلك من أحكامه ، فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط ، وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا ، فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراما عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبا عليه من حقوقها ، كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط ، فإذا ملك تغيير [ ص: 263 ] الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له ، وقد قال - تعالى - : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان ، فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك ، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه ولا ألزمهما الله ولا رسوله به ، ولا يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما الله ورسوله به ولا هما التزماه ، ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه ، ومحرم الحلال كمحلل الحرام ، فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله ، وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله ، وكلا القولين خطأ ، بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله ، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه ، وبالله التوفيق

.

التالي السابق


الخدمات العلمية