الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر محاربة علي بن عيسى وطاهر

ثم إن الأمين أمر علي بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون .

وكان سبب مسيره ، دون غيره ، أن ذا الرياستين كان له عين عند الفضل بن الربيع يرجع إلى قوله ورأيه ، فكتب ذو الرياستين إلى ذلك الرجل يأمره أن يشير بإنفاذ ابن ماهان لحربهم ، وكان مقصوده أن ابن ماهان لما ولي خراسان أيام الرشيد ، أساء السيرة في أهلها فظلمهم ، فعزله الرشيد لذلك ، ونفر أهل خراسان عنه ، وأبغضوه ، فأراد ذو الرياستين أن يزداد أهل خراسان جدا في محاربة الأمين وأصحابه .

ففعل ذلك الرجل ما أمر ذو الرياستين ، فأمر الأمين ابن ماهان بالمسير .

وقيل : كان سببه أن عليا قال للأمين : إن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن قصدهم هو أطاعوه ، وانقادوا له ، وإن كان غيره فلا ! فأمره بالمسير ، وأقطعه كور الجبل كلها : نهاوند ، وهمذان ، وقم ، وأصبهان ، وغير ذلك ، وولاه حربها وخراجها ، وأعطاه الأموال ، وحكمه في الخزائن ، وجهز معه خمسين ألف فارس .

[ ص: 412 ] وكتب إلى أبي دلف القاسم بن ( إدريس بن عيسى ) العجلي ، وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه ، وأمده بالأموال والرجال شيئا بعد شيء .

فلما عزم على المسير من بغداذ ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعها ، فقالت له : يا علي ! إن أمير المؤمنين [ و ] إن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي ، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة ، لما يحدث عليه من مكروه وأذى ، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه [ وغاره على ما في يده ] ، والكريم يأكل لحمه ويميقه غيره ، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ، ولاتجبهه بالكلام ، فإنك لست [ له ] بنظير ، ولا تقتسره اقتسار العبيد ، ولا توهنه بقيد ولا غل ، ولا تمنع عنه جارية ولا خادما ، ولا تعنف عليه في السير ، ولا تساوه في المسير ، ولا تركب قبله ، وخذ بركابه [ إذا ركب ] ، وإن شتمك فاحتمل منه .

ثم دفعت إليه قيدا من فضة ، وقالت : إن صار إليك فقيده بهذا القيد ! فقال لها : سأفعل ( مثل ) ما أمرت .

ثم خرج علي بن عيسى في شعبان ، وركب الأمين يشيعه ، ومعه القواد والجنود ، وذكر مشايخ بغداذ أنهم لم يروا عسكرا أكثر رجالا ، وأفره كراعا ، وأتم عدة وسلاحا - من عسكره . ووصاه الأمين ، وأمره إن قاتله المأمون أن يحرص على أسره .

ثم سار فلقيه القوافل عند جلولاء ، فسألهم فقالوا له : إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه ، ويرم آلته ، والأمداد تأتيه من خراسان ، وهو يستعد للقتال ، فيقول : إنما طاهر شوكة من أغصاني ، وما مثل طاهر يتولى الجيوش ، ثم قال لأصحابه : ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح ، والريح العاصف - إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان ، فإن السخال لا تقوى على النطاح ، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد ، وإن [ ص: 413 ] أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح ، وإذا ( قاربنا الري ودنونا منهم ) فت ذلك في أعضادهم .

ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان ، وما والاها من الملوك ، يعدهم الصلات ، وأهدى لهم التيجان والأسورة وغيرها ، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ، فأجابوه إلى ذلك ، وسار حتى أتى أول أعمال الري ، وهو قليل الاحتيال ، فقال له جماعة من أصحابه : لو أركبت العيون ، وعملت خندقا لأصحابك ، وبعثت الطلائع لأمنت البيات ، وفعلت الرأي ، فقال : مثل طاهر لا يستعد له ، وإن حاله يئول إلى أمرين : إما [ أن ] يتحصن بالري فيبيته أهلها ، فيكفونا أمره ، وإما أن يرجع ويتركها ، إذا قربت خيلنا منه ، فقالوا له : لو كان عزمه تركها والرجوع لفعل ، فإننا قد قربنا منه فلم يفعل .

ولما صار بينه وبين الري عشرة فراسخ استشار طاهر أصحابه ، وأشاروا عليه أن يقيم بالري ، ويدافع القتال إلى أن يأتيه من خراسان المدد ، وقائد يتولى الأمور دونه ، وقالوا له : إن مقامك [ بمدينة الري ] أرفق بأصحابك [ وبك ] ، وأقدر لهم على الميرة ، وأكن من البرد ، وتعتصم بالبيوت ، وتقدر على المماطلة ، فقال طاهر : إن الرأي ليس ما رأيتم ، إن أهل الري لعلي هائبون ، ومن سطوته مشفقون ، ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال والقرايا كثير ، ولست آمن إن أقمت بالري ، أن يثب أهلها بنا خوفا من علي ، وما الرأي إلا أن نسير إليه ، فإن ظفرنا ، وإلا عولنا عليها ، فقاتلناه فيها إلى أن يأتينا مدد .

فنادى طاهر في أصحابه فخرج من الري في أقل من أربعة آلاف فارس ، وعسكر على خمسة فراسخ ، فأتاه أحمد بن هشام ، وكان على شرطة طاهر ، فقال له : إن أتانا علي بن عيسى فقال : أنا عامل أمير المؤمنين ، وأقررنا له بذلك ، فليس لنا أن نحاربه ، فقال طاهر : لم يأتني في ذلك شيء . فقال : دعني وما أريد ، فقال : افعل ! فصعد المنبر ، فخلع محمدا ، ودعا للمأمون بالخلافة ، وساروا عنها ، وقال له بعض أصحابه : إن جندك [ ص: 414 ] قد هابوا هذا الجيش ، فلو أخرت القتال إلى أن يشامهم أصحابك ، ويأنسوا بهم ، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم ، قال : إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم ، إن أصحابي قليل ، والقوم عظيم سوادهم ، كثير عددهم ، فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا ، واستمالوا من معي برهبة أو رغبة ، فيخذلني أهل الصبر والحفاظ ، ولكن ألف الرجال بالرجال ، وأقحم الخيل على الخيل ، وأعتمد على الطاعة والوفاء ، وأصبر صبر محتسب للخير ، حريص على الفوز بالشهادة ، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه ، وإن يكن الأخرى فلست بأول من قاتل ( وقتل ، وما عند الله أجزل وأفضل .

وقال علي لأصحابه : بادروهم ، فإنهم قليلون ) ، ولو وجدوا حرارة السيوف وطعن الرماح لم يصبروا عليها .

وعبى جنده ميمنة وميسرة وقلبا ، وعبى عشر رايات ، مع كل راية مائة رجل ، وقدمها راية راية ، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم ، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالهم أن تتقدم التي تليها ، وتتأخر هي حتى تستريح ، وجعل أصحاب الجواشن أمام الرايات ، ووقف في شجعان أصحابه .

وعبى طاهر أصحابه كراديس ، وسار بهم يحرضهم ، ويوصيهم ، ويرجيهم .

وهرب من أصحاب طاهر نفر إلى علي ، فجلد بعضهم ، وأهان الباقين ، فكان ذلك مما ألب الباقين على قتاله ، وزحف الناس بعضهم إلى بعض ، فقال أحمد بن هشام لطاهر : ألا تذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون خاصة معاشر أهل خراسان ؟ قال : أفعل . فأخذ البيعة فعلقها على رمح ، وقام بين الصفين ، وطلب الأمان فأمنه علي بن عيسى ، فقال له : ألا تتقي الله - عز وجل - أليس هذه نسخة البيعة التي [ ص: 415 ] أخذتها أنت خاصة ؟ اتق الله ، فقد بلغت باب قبرك ! فقال علي : من أتاني به فله ألف درهم ، فشتمه أصحاب أحمد ، وخرج من أصحاب علي رجل يقال له حاتم الطائي ، فحمل عليه طاهر ، وأخذ السيف بيديه وضربه ، فصرعه ، فلذلك سمي طاهر ذا اليمينين .

ووثب أهل الري فأغلقوا باب المدينة ، فقال طاهر لأصحابه : اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم ، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق . ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، وحملت ميمنة علي على ميسرة طاهر ، فانهزمت هزيمة منكرة ، وميسرته على ميمنة طاهر ، فأزالتها عن موضعها ، فقال طاهر : اجعلوا جدكم وبأسكم على القلب ، واحملوا حملة خارجية ، فإنكم متى فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها . فصبر أصحابه صبرا صادقا ، وحملوا على أول رايات القلب ، فهزموهم ، وأكثروا فيهم القتل ، ورجعت الرايات بعضها على بعض ، فانتفضت ميمنة علي .

ورأى ميمنة طاهر وميسرته ما فعل أصحابهم ، فرجعوا على من بإزائهم ، فهزموهم ، وانتهت الهزيمة إلى علي ، فجعل ينادي أصحابه : أين أصحاب الخواص ، والجوائز ، والأسورة ، والأكاليل ، إلى الكرة بعد الفرة ! فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله ، قيل كان داود سياه ، وحمل رأسه إلى طاهر ، وشدت يداه إلى رجليه ، وحمل على خشبة إلى طاهر ، فأمر به فألقي في بئر ، فأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله - تعالى - وتمت الهزيمة ، ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف ، وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة ، في كل ذلك ينهزم عسكر الأمين ، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم ، وغنموا غنيمة عظيمة .

ونادى طاهر : من ألقى سلاحه فهو آمن . وطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ، ورجع طاهر إلى الري ، وكتب إلى المأمون وذي الرياستين : " بسم الله الرحمن الرحيم ، كتابي إلى أمير المؤمنين ، ورأس علي بن عيسى بين يدي ، وخاتمه في إصبعي ، وجنده مصرفون تحت أمري ، والسلام " .

[ ص: 416 ] فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيام ، وبينهما نحو من خمسين ومائتي فرسخ ، فدخل ذو الرياستين على المأمون ، فهنأه بالفتح ، وأمر الناس ، فدخلوا عليه ، فسلموا عليه بالخلافة ، ثم وصل رأس علي بعد الكتاب بيومين ، فطيف به في خراسان .

ولما وصل الكتاب بالفتح كان المأمون قد جهز هرثمة في جيش كثير ليسيره نجدة لطاهر ، فأتاه الخبر بالفتح .

وأما الأمين فإنه أتاه نعي علي بن عيسى وهو يصطاد السمك ، فقال للذي أخبره : ويلك دعني ، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين ، وأنا ما صدت شيئا بعد .

ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم ، وهو وكيل المأمون على مكة بالسواد ، والناظر في أمر أولاده ببغداذ ، وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد ، فأخذ جميع ما عنده ، وقبض ضياعه وغلاته ، فقال بعض شعراء بغداذ في ذلك :

أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير     ففضل وزير ، وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير     وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور



في عدة أبيات تركتها لما فيها من القذف الفاحش ، ولقد عجبت لأبي جعفر حيث ذكرها مع ورعه .

وندم الأمين على نكثه وغدره ، ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال ، فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب ، ففعلوا ذلك ، ففرق فيهم مالا كثيرا بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم ، فمنعه الأمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية