الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 73 ] ( والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية فيقومه ذوا عدل ، ثم هو مخير في الفداء إن شاء ابتاع بها هديا وذبحه إن بلغت هديا ، وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ، وإن شاء صام ) على ما نذكر ، وقال محمد والشافعي : يجب في الصيد النظير فيما له نظير ، ففي الظبي شاة ، وفي الضبع شاة ، وفي الأرنب عناق ، [ ص: 74 ] وفي اليربوع جفرة ، وفي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة لقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة ; لأن القيمة لا تكون نعما . والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا النظير من حيث الخلقة والمنظر في النعامة والظبي وحمار الوحش والأرنب على ما بينا .

وقال صلى الله عليه وسلم { الضبع صيد وفيه شاة } وما ليس له نظير عند محمد رحمه الله تجب فيه القيمة مثل العصفور والحمام وأشباههما . وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما . والشافعي رحمه الله يوجب في الحمامة شاة ويثبت المشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر . ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى ، ولا يمكن الحمل عليه فحمل على [ ص: 75 ] المثل معنى لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق العباد أو لكونه مرادا بالإجماع ، أو لما فيه من التعميم ، وفي ضده التخصيص . والمراد بالنص والله أعلم فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي . واسم النعم ينطلق على الوحشي والأهلي ، كذا قاله أبو عبيدة والأصمعي رحمهما الله . والمراد بما روي التقدير به دون إيجاب المعين . [ ص: 76 ] ثم الخيار إلى القاتل في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله .

وقال محمد والشافعي رحمهما الله : الخيار إلى الحكمين في ذلك ، فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما ذكرنا ، وإن حكما بالطعام أو بالصيام فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف . لهما أن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين . ولمحمد والشافعي قوله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم هديا } الآية ، ذكر الهدي منصوبا [ ص: 77 ] لأنه تفسير لقوله تعالى { يحكم به } ومفعول لحكم الحكم ، ثم ذكر الطعام والصيام بكلمة أو فيكون الخيار إليهما . قلنا : الكفارة عطفت على الجزاء لا على الهدي بدليل أنه مرفوع ، وكذا قوله تعالى { أو عدل ذلك صياما } مرفوع ، فلم يكن فيها دلالة اختيار الحكمين ، وإنما يرجع إليهما في تقويم المتلف ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه ، ويقومان في المكان الذي أصابه لاختلاف القيم باختلاف الأماكن ، فإن كان الموضع برا لا يباع فيه الصيد يعتبر أقرب [ ص: 78 ] المواضع إليه مما يباع فيه ويشترى . قالوا : والواحد يكفي والمثنى أولى ; لأنه أحوط وأبعد عن الغلط كما في حقوق العباد . وقيل يعتبر المثنى ههنا بالنص .

التالي السابق


( قوله : وقال محمد والشافعي إلخ ) ذكر في النهاية أن الخلاف في فصول . الأول : أن الواجب عندهما القيمة ، وعند محمد والشافعي النظير فيما له نظير . الثاني : أن الذي إلى الحكمين تقويم المقتول ، فإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى القاتل بين أن يشتري بها هديا يهديه أو طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل طعام مسكين يوما ، وعند محمد والشافعي إلى الحكمين ، فإذا عينا نوعا لزمه . ا هـ . وقال غيره : الخيار في تعيين الهدي والإطعام والصيام إلى الحكمين ، فإذا حكما بالهدي فالمعتبر فيما له مثل ونظير من حيث الخلقة ما هو مثله ففي الضبع شاة إلخ . والحاصل أن المشايخ اختلفوا في تعيين قول محمد حكى الطحاوي عنه أن الخيار إلى الحكمين ، فإن حكما عليه بالهدي نظر القاتل إلى نظيره من النعم من حيث الخلقة إن كان الصيد مما له نظير سواء كانت قيمة نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر إلى القيمة فيجب ، وإن لم يكن له نظير كسائر الطيور تعتبر قيمته كما قالا . وحكى الكرخي قول محمد : إن الخيار إلى القاتل غير أنه إن اختار الهدي تعين النظير فيما له نظير ، وعند الشافعي يجب النظير ابتداء من غير اختيار أحد ، وله أن يطعم ويكون الطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد كذا في البدائع .

وعن زفر رحمه الله عدم جواز الصوم حالة القدرة على الهدي والإطعام ، قاسه على كفارة اليمين والظهار وهدي المتعة ، وقال حرف " أو " لا ينفي الترتيب كما في قطاع الطريق . ودفع بأن شرط القياس عدم النص في الفرع ، والنص الكائن فيه يوجب التخيير بحقيقة " أو " وإعمالها في موضع في مجازيها لدليل لا يجوز اعتبارها كذلك في كل موضع ; لعدم الدليل فيها . ( قوله : ففي الأرنب عناق إلخ ) العناق : الأنثى من أولاد المعز ، والجدي الذكر ، وهما دون الجذع ، والجفر : ما يبلغ أربعة أشهر من [ ص: 74 ] العناق ، والأنثى جفرة بالجيم ( قوله : فلقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ) بناء على حمل المثل على المماثل في الصورة ، ولفظ { من النعم } بيان للجزاء أو للمثل ، والقيمة ليست نعما ولذا أوجب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين المثل من حيث الصورة في موطأ مالك ، أخبرنا أبو الزبير عن جابر " أن عمر قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة " وروى الشافعي حديثا " أن عمر وعثمان وعليا وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضوان الله عليهم قالوا : في النعامة يقتلها المحرم بدنة من الإبل " ، وفيه ضعف وانقطاع ، فلذا قال عقيبه : إنما نقول : إن في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا الأثر ; لأنه غير ثابت عند أهل العلم بالحديث . ا هـ .

لكن أخرج البيهقي عن ابن عباس قال " في حمامة الحرم شاة ، وفي بيضتين درهم ، وفي النعامة جزور ، وفي البقرة بقرة ، وفي الحمار بقرة " ( وقال صلى الله عليه وسلم { الضبع صيد وفيه شاة } ) رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع أصيد هو ؟ قال نعم ، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم } وأخرجه أيضا الحاكم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل } وقال صحيح ، ولم يخرجاه ( قوله ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى ) وهو المشارك في النوع ، وهو غير مراد هنا بالإجماع ، فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة [ ص: 75 ] وهذا ; لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة ، قال تعالى في ضمان العدوان { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } والمراد الأعم منهما .

أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي ، والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للمماثلة الكائنة [ ص: 76 ] في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف الباطني بين أبناء نوع واحد ، فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره ، فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر ، إلا أن لا يمكن وذلك بأن لا يكون للفظ محمل يمكن سواه ، فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود ، وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه ، وأن يحمل حكم الصحابة بالنظير على أنه كان باعتبار تقدير المالية : أي بيان أن مالية المقتول كمالية الشاة الوسط لا على معنى أنه لا يجزي غيره .

بقي أن يبين احتمال لفظ الآية لذلك ، وفيها قراءتان مشهورتان ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مرفوع منون مثل ما قتل من النعم برفع مثل ، والأخرى فجزاء مثل بإضافة الجزاء إلى مثل وهي إضافة بيانية فالمعنى واحد : أي فجزاء هو مثل ما قتل ومضمون الآية شرط وجزاء حذف منه المبتدأ بعد فاء الجزاء أو الخبر تقديره فالواجب عليه جزاء مثل ما قتل : أي قيمة ما قتل أو فعليه جزاء .

ومن النعم بيان لما قتل أو للعائد إليها : أعني المنصوب المحذوف أي ما قتله من النعم الوحشي ، والنعم يطلق عليه لغة كما يطلق على الأهلي فيتعلق بمحذوف ; لأنه في موضع الحال . وقوله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } جملة واقعة صفة لجزاء الذي هو القيمة أو لمثل الذي هو هي ; لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة ، وهديا حال من ضمير به وهو الراجع إلى ما يجعل موصوفا منهما وهي حال مقدرة : أي صائرا هديا به وذلك في نفس الأمر بواسطة الشراء بها أو غير ذلك . و { بالغ الكعبة } صفة ; لأن إضافته لفظية فتوصف به النكرة { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } معطوفان على الجزاء ; لأنهما مرفوعان .

وتمام مؤدى التركيب على هذا ، فالواجب عليه جزاء هو قيمة ما قتله من النعم الوحشي يحكم به : أي بذلك الجزاء الذي هو القيمة عدلان حال كونه صائرا هديا بواسطة القيمة { أو كفارة طعام مساكين } إلى آخرها : أي الواجب أحد الأمرين من القيمة الصائرة هديا ومن الإطعام والصيام المبنيين على تعرف القيمة ، فقد [ ص: 77 ] ظهر تأدي المعنى الذي ذهبنا إليه من لفظة الآية من غير زيادة تكلف فيها ، وكون الحال مقدرة كثير بثير ، وهو وإن لم يلزم على تقدير المخالف فيها يلزم على تقديره في وصفها وهو بالغ الكعبة فإنه لا يصح حكمهما بالهدي موصوفا ببلوغه إلى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق ، بل المراد يحكمان به مقدرا بلوغه ، فلزوم التقدير ثابت غير أنه يختلف محله على الوجهين ، ثم على كل تقدير لا دلالة للآية على أن الاختيار إلى الحكمين ، بل الظاهر منها أنه إلى من عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه : أعني ما قدرناه من قولنا فالواجب عليه أو فعليه ، والله جلت عظمته أعلم ( قوله : لأنه تفسير لقوله تعالى { يحكم به } ) سماه تفسيرا ; لأنه أزال الإبهام عنه في الجملة حتى سماه بعض تمييزا لكونه حالا وكل حال تكشف عن إبهام في الجملة : أعني اعتبار أحوال ما هي له هذا .

ويقوم الصيد بما فيه من الخلقة لا بما زاده التعليم ، فلو كان بازيا صيودا أو حماما يجيء من بعيد قوم لا باعتبار الصيودية والمجيء من بعيد ، فإذا كان مملوكا كان عليه قيمته لمالكه يعتبر فيها ما يزيده التعليم وقيمته للجناية لا يعتبر فيها ذلك . أما لو كان قيمته زائدة لحسن تصويته ففي اعتبارها روايتان : في رواية لا تعتبر ; لأنه ليس من أصل الصيدية ، وفي أخرى تعتبر ; لأنه ثابت بأصل الخلقة كالحمام المطوق ، أما في الغصب فيضمن بما يشترى به [ ص: 78 ] في البلد إلا إذا كان المحرم من اللهو كقيمة الديك لنقاره والكبش لنطاحه والتيس للعبه . ( قوله : وقيل يعتبر المثنى ) أي في الحكم المقوم . والذين لم يوجبوه حملوا العدد في الآية على الأولوية ; لأن المقصود به زيادة الإحكام والإتقان ، والظاهر الوجوب ، وقصد الإحكام والإتقان لا ينافيه بل قد يكون داعيته .




الخدمات العلمية