الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خلع القاهر بالله

وفيها خلع القاهر بالله في جمادى الأولى ، وكان سبب ذلك أن أبا علي بن مقلة كان مستترا من القاهر ، والقاهر يتطلبه ، وكذلك الحسن بن هارون ، فكانا يراسلان قواد الساجية ، والحجرية ، ويخوفانهم من شره ، ويذكران لهم غدره ونكثه مرة بعد أخرى ، كقتل مؤنس ، وبليق ، وابنه علي بعد الأيمان لهم ، وكقبضه على طريف السبكري بعد اليمين له ، مع نصح طريف له ، إلى غير ذلك .

وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ليلا ، تارة في زي أعمى ، وتارة في زي مكد ، وتارة في زي امرأة ، ويغريهم به .

ثم إنه أعطى منجما كان لسيما مائتي دينار ، وأعطاه الحسن مائة دينار ، وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر ويقتله ، ( وأعطى ابن مقلة أيضا ) لمعبر كان لسيما يعبر له المنامات ، فكان يحذره أيضا من القاهر ، ويعبر له على ما يريد ، فازداد نفورا ( من القاهر ) .

ثم إن القاهر شرع في عمل مطامير في الدار ، فقيل لسيما ولجماعة قواد الساجية والحجرية : إنما عملها لأجلكم ، فازدادا نفورا ، ونقل إلى سيما أن القاهر يريد قتله ، [ ص: 18 ] فجمع الساجية ، وكان هو رئيسهم المقدم عليهم ، وأعطاهم السلاح ، وأنفذوا إلى الحجرية : إن كنتم موافقين لنا ، فجيئوا إلينا حتى نحلف بعضنا لبعض ، وتكون كلمتنا واحدة ، فاجتمعوا جميعهم ، وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم .

فاتصل ذلك بالقاهر ووزيره الخصيبي ، فأرسل إليهم الوزير : ما الذي حملكم على هذا ؟ فقالوا : قد صح عندنا أن القاهر يريد القبض على سيما ، وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوادنا ورؤساءنا ، فلما كان يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى ، اجتمع الساجية والحجرية عند سيما ، وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر ، فقال لهم سيما : قوموا بنا الساعة حتى نمضي هذا العزم ، فإنه إن تأخر علم به ، واحترز وأهلكنا .

وبلغ ذلك الوزير ، فأرسل الحاجب سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك ، فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته ، فلم يقدرا على إعلامه بذلك .

وزحف الحجرية والساجية إلى الدار ، ووكل سيما بأبوابها من يحفظها ، وبقي هو على باب العامة ، وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب ، فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة ، استيقظ مخمورا ، وطلب بابا يهرب منه ، فقيل له : إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال ، فهرب إلى سطح حمام ، فلما دخل القوم لم يجدوه ، فأخذوا الخدم وسألوهم عنه ، فدلهم عليه خادم صغير ، فقصدوه ، فرأوه وبيده السيف ، فاجتهدوا به فلم ينزل لهم ، فألانوا له القول ، وقالوا : نحن عبيدك ، وإنما نريد أن نأخذ عليك العهود ، فلم يقبل منهم ، وقال : من صعد إلي قتلته . فأخذ بعضهم سهما ، وقال : إن نزلت ، وإلا وضعته في نحرك . فنزل حينئذ إليهم ، فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكري ، ففتحوه وأخرجوه منه ، وحبسوا القاهر مكانه ، ثم سلموه ، وهرب وزيره الخصيبي وسلامة حاجبه .

وقيل في سبب خلعه وقيام الساجية والحجرية غير ما تقدم ، وهو أن القاهر لما تمكن من الخلافة ، أقبل ينقص الساجية والحجرية على ممر الأيام ، ولا يقضي لأكابرهم حاجة ، ويلزمهم النوبة في داره ، ويؤخر أعطياتهم ، ويغلط لمن يخاطبه منهم في أمر ، ويحرمه ، فأقبل بعضهم ينذر بعضا ، ويتشاكون بينهم ، ثم إنه كان يقول لسلامة [ ص: 19 ] حاجبه : يا سلامة ، أنت بين يدي كنز مال يمشي ، فأي شيء يبين في مالك لو أعطيتني ألف ألف دينار ؟ فيحمل ذلك منه على الهزل .

وكان وزيره الخصيبي أيضا خائفا لما يرى منه ، ثم إنه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض ، وأحكم أبوابها ، فكان يقال : إنه عملها لمقدمي الساجية والحجرية ، فازداد نفورهم منه وخوفهم ، ثم إن جماعة من القرامطة أخذوا بفارس وأرسلوا إلى بغداذ ، كما تقدم ، فحبسوا في تلك المطامير ، ثم تقدم سرا بفتح الأبواب عليهم ، والإحسان إليهم ، وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدمي الحجرية والساجية ، وبمن معه من غلمانه .

وأنكر الحجرية والساجية حال القرامطة ، وكونهم معه في داره محسنا إليهم ، وقالوا لوزيره الخصيبي ، وحاجبه سلامة في ذلك ، فقالا له ، فأخرجهم من الدار ، فسلمهم إلى محمد بن ياقوت ، وهو على شرطة بغداذ ، فأنزلهم في دار ، وأحسن إليهم ، وكان يدخل إليهم من يريد ، فعظم استيحاشهم .

ثم صار يذمهم في مجلسه ، ويظهر كراهتهم ، حتى تبينوا ذلك في وجهه وحركاته معهم ، فأظهروا أن لبعض قوادهم عرسا ، فاجتمعوا بحجته ، وقرروا بينهم ما أرادوا ، وافترقوا ، وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر ، فقالوا له : قد علمت ما فعله بمولاتك ، وقد ركبت في موافقته كل عظيم ، فإن وافقتنا على ما نحن عليه ، وتقدمت إلى الخدم بحفظه ، فعفا الله عما سلف منك ، وإلا فنحن نبدأ بك ، فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر ، وأنه موافقهم ، وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خلع ، كما ذكرنا ، وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية