الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الأمر الثالث ) ما ورد في ضغطة القبر وظلمته لكل واحد - أخرج الإمام أحمد في المسند والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن حذيفة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما انتهينا إلى القبر قعد على شفيره فجعل يردد بصره فيه ثم قال : " يضغط فيه المؤمن ضغطة تزول منها حمائله " قال في النهاية : القبر .

[ ص: 15 ] الحمائل هنا عروق الأنثيين قال ويحتمل أن يكون يراد هنا موضع حمائل السيف أي عواتقه وأضلاعه وصدره .

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن للقبر ضغطة لو كان أحد منها ناجيا نجا منها سعد بن معاذ " رضي الله عنه .

وأخرج الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما دفن سعد بن معاذ رضي الله عنه سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح الناس معه طويلا ثم كبر وكبر الناس ثم قالوا : يا رسول الله لم سبحت ؟ قال " لقد تضايق عن هذا الرجل الصالح قبره حتى فرج الله عنه " .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دفن سعد بن معاذ وهو قاعد على قبره قال : " لو نجا من ضمة القبر أحد لنجا سعد بن معاذ ولقد ضم ضمة ثم أرخي عنه " رواه سعيد بن منصور والحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي .

وأخرج النسائي والبيهقي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه " يعني سعد بن معاذ . قال الحسن البصري : تحرك له العرش فرحا بروحه . أخرجه البيهقي في الدلائل .

وأخرج الحكيم الترمذي والبيهقي من طريق ابن إسحاق حدثني ابن أمية أو ابن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ فقالوا : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك قال " كان يقصر في بعض الطهور من البول " .

والأحاديث في هذا كثيرة مشهورة ، قال ابن أبي مليكة ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله في الجنة خير من الدنيا وما فيها . وقال مجاهد أشد حديث سمعناه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما عفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد " فقيل يا رسول الله : ولا القاسم ابنك ؟ قال " ولا إبراهيم " وكان أصغرهما . فقال أبو القاسم السعدي في كتاب الروح له لا ينجو من ضغطة [ ص: 16 ] القبر صالح ولا طالح . والمراد غير من استثناه النبي صلى الله عليه وسلم وهو فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذلك لأنها ضمت المصطفى ولما ماتت سكب عليها الماء الذي فيه الكافور وألبسها قميصه واضطجع في قبرها وقال : " الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حاجتها ووسع عليها مدخلها " . وكانت وفاتها في المدينة ودفنت شمال قبة عثمان في موضع يقال له الحمام وعليها قبة صغيرة كما في زبدة الأعمال مختصر تاريخ الأزرقي .

قال أبو القاسم السعدي : والفرق بين المسلم والكافر في ضمة القبر دوامها للكافر وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود الانفساح له فيه ، قال والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت .

قال الحكيم الترمذي سبب هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما وإن كان صالحا فجعلت هذه الضغطة جزاء لها ثم تدركه الرحمة ولذلك ضغط سعد بن معاذ رضي الله عنه .

قال وأما الأنبياء فلا نعلم أن لهم في القبور ضمة ولا سؤالا لعصمتهم - أي لأن السؤال عن الأنبياء وما جاءوا به فكيف يسألون عن أنفسهم ؟ وقد ذكر الإمام الحافظ ابن الجوزي في مناقب سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه أنه رآه المروذي رحمه الله بعد موته في منامه فقال له ما فعل الله بك ؟ فذكر أن الملكين سألاه وقالا له من ربك ؟ فقال سبحان الله أومثلي يسأل عن ربه ؟ فقالا لا تؤاخذنا بذا أمرنا ثم انصرفا . فكيف بأنبياء الله وهم المخبرون عنه الدالون عليه المجتهدون في إنقاذ عباده من عقابه وغضبه إلى مرضاته بإذنه . قال محمد التميمي : ضمة القبر إنما أصلها أن الأرض أمهم ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة فلما ردوا إليها وهم أولادها ضمتهم ضمة الوالدة إذا غاب عنها ولدها ثم قدم ، فمن كان مطيعا ضمته برفق ومن كان عاصيا ضمته بعنف سخطا لربها عليه . وقد أخرج البيهقي وابن منده والديلمي وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله إنك منذ حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء ؟ ، قال " يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في سماع المؤمنين كإثمد في العين ، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز [ ص: 17 ] رأسه غمزا رفيقا ، ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة "

التالي السابق


الخدمات العلمية