الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) : ( الخبر إن طابق ) ما في الخارج ( ف ) هو ( صدق وإلا ) أي وإن لم يطابق الواقع في الخارج ( ف ) هو ( كذب ) ولا فرق في ذلك بين اعتقاد المطابقة مع الصدق ، أو عدمها مع الكذب . وبين أن لا يعتقد شيئا أو يعتقد عدم المطابقة مع وجودها ، أو يعتقد وجودها مع عدمها . وإذن فلا واسطة بين الصدق والكذب . وهذا مذهب أهل الحق . وقال الجاحظ : المطابق مع اعتقاد المطابقة صدق ، وغير المطابق مع [ ص: 254 ] اعتقاد عدم المطابقة كذب . وغيرهما واسطة ، لا صدق ، ولا كذب . فيدخل في الواسطة أربعة أقسام فتصير الأقسام عنده ستة : صدق وكذب وواسطة ; لأن الخبر إما مطابق أو غير مطابق . فإن كان مطابقا فإما أن يكون معه اعتقاد المطابقة أو لا . والثاني : إما أن يكون معه اعتقاد أن لا مطابقة أو لا . وإن كان غير مطابق فإما أن يكون معه اعتقاد أن لا مطابقة أو لا . والثاني إما أن يكون معه اعتقاد المطابقة أو لا . واستدل لقول الجاحظ بقوله تعالى { أفترى على الله كذبا أم به جنة } والمراد الحصر في الافتراء والجنون ، ضرورة عدم اعترافهم بصدقه . فعلى تقدير أنه كلام مجنون لا يكون صدقا ; لأنهم لا يعتقدون صدقه ولا كذبه ; لأنه قسيم الكذب على ما زعموه . فثبتت الواسطة بين الصدق والكذب . وأجيب بأن المعنى : أفترى على الله كذبا أم لم يفتر . فيكون مجنونا ; لأن المجنون لا افتراء له لعدم قصده . واستدلوا أيضا بنحو قول عائشة رضي الله عنها عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث { إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه } : ما كذب ، ولكن وهم " وأجيب : بأن المراد ما كذب عمدا ، بل وهم . قال ابن مفلح في أصوله : المراد من الآية عند الجمهور الحصر في كونه خبرا كذبا ، أو ليس بخبر لجنونه .

فلا عبرة بكلامه . وأما المدح والذم فيتبعان القصد ويرجعان إلى المخبر ، لا إلى الخبر . ومعلوم عند الأمة صدق المكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " محمد رسول الله " مع عدم اعتقاده ، وكذبه في نفي الرسالة مع اعتقاده . وكثر في السنة تكذيب من أخبر - يعتقد المطابقة - فلم يكن ، كقوله صلى الله عليه وسلم { كذب أبو السنابل } انتهى . وقيل : إن اعتقد المخبر المطابقة وكان الأمر كما اعتقد ، فصدق وإلا فكذب ، سواء كان مطابقا أو لم يكن . كقوله تعالى { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } كذبهم الله تعالى لعدم اعتقادهم ، مع أن قولهم مطابق للخارج . ورد ذلك بأنه أكذبهم في شهادتهم ; لأن الشهادة الصادقة أن [ ص: 255 ] يشهد بالمطابقة معتقدا . وقال الفراء : الكاذبون في ضمائرهم . وقيل في تمنيهم .

فالخبر على هذا القول وإن كان منحصرا في الصدق والكذب ، لكن لا على الوجه الذي عليه الجمهور ( ويكونان ) أي الصدق والكذب ( في ) زمن ( مستقبل ك ) ما يكونان في زمن ( ماض ) قال الإمام أحمد رضي الله عنه فيمن قال : لا آكل ثم أكل : هذا كذب ، لا ينبغي أن يفعل . وقيل له أيضا : بم تعرف الكذاب ؟ قال بخلف الوعد . وتبعه على ذلك ابن عقيل وابن الجوزي ، والشيخ موفق الدين وغيرهم . لقوله تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } وقوله تعالى ( { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم } - إلى آخر الآية ) وقوله تعالى { والله يشهد إنهم لكاذبون } وقوله تعالى { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون } فأكذبهم الله تعالى . وفي صحيح البخاري في { قول سعد بن عبادة يوم فتح مكة اليوم تستحل الكعبة فقال صلى الله عليه وسلم كذب سعد } وفي صحيح مسلم في { قول عبد حاطب لما جاء يشكو حاطبا ليدخلن حاطب النار فقال صلى الله عليه وسلم كذبت ، لا يدخلها } ورد أبو جعفر النحاس على من أنكر ذلك بقوله تعالى { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } وقيل : لا يكون الكذب إلا في ماض . قال البرماوي : وهو قول مشهور ، بل هو المفهوم عن الشافعي . ثم قال : والحق أن الخبر عن المستقبل يقبل التصديق والتكذيب . فإن تعلق بالمستقبل ولم يقبل ذلك كالوعد . كان إنشاء . وليس مما نحن فيه . انتهى

التالي السابق


الخدمات العلمية