الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا سنتان ) وهو قول الشافعي رحمه الله . [ ص: 442 ] وقال زفر : ثلاثة أحوال ; لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال ، ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فيقدر به . ولهما قوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ومدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان . وقال النبي عليه الصلاة والسلام { لا رضاع بعد حولين } وله هذه الآية . ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين ، إلا أنه قام المنقص في أحدهما فبقي في الثاني على ظاهره ، ولأنه لا بد من تغير الغذاء لينقطع الإنبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيره فقدرت بأدنى مدة الحمل ; لأنها مغيرة ، فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع كما يغاير غذاء الفطيم ، والحديث محمول على مدة الاستحقاق ، [ ص: 443 - 444 ] وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب .

التالي السابق


وينبغي أن يكون الرضاع الموجب للتحريم في مدة الرضاع على ما نبين في المسألة التي تليها وهي قوله ( ثم مدة الرضاع ) التي إذا وقع الرضاع فيها تعلق به التحريم ( ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : سنتان ) وهو قول الشافعي ومالك وأحمد ، وقال زفر : ثلاثة أحوال ، وعن مالك رحمه الله سنتان وشهر ، وفي أخرى شهران ، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه . وقال بعضهم : لا حد له للإطلاقات فيوجب التحريم ولو في حال الكبر ، وعن بعضهم إلى خمس عشرة سنة ، وقال [ ص: 442 ] آخرون إلى أربعين سنة ، ولا عبرة بهذين القولين ( قوله : لأن الحول حسن إلخ ) هذا وجه قول زفر رحمه الله . وحاصله أنه لا بد من مدة يتعود فيها الصبي غير اللبن لينقطع الإنبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود فيها الصبي تغير الغذاء والحول حسن للتحول من حال إلى حال لاشتماله على الفصول الأربعة فقدر بالثلاثة وهذا هو المراد بقوله لما نبين : أي في دليل أبي حنيفة رحمه الله . ولهما قوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ومدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان .

وقال صلى الله عليه وسلم { لا رضاع بعد حولين } رواه الدارقطني عن ابن عباس يرفعه هكذا { لا رضاع إلا ما كان من حولين } وظاهر أن المراد نفي الأحكام وقال : لم يسنده عن ابن عيينة إلا الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ ا هـ .

وكذا وثقه أحمد رحمه الله والعجلي وابن حبان وغير واحد ، وروي موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما بلا ريب ، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود وعلي والدارقطني على عمر . وأظهر الأدلة لهما قوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل التمام بهما ولا مزيد على التمام . ولأبي حنيفة رحمه الله هذه الآية . ووجهه أنه سبحانه ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال أجلت الدين الذي لي [ ص: 443 ] على فلان والدين الذي لي على فلان سنة يفهم منه أن السنة بكمالها لكل ، أو على شخص فيقول لفلان علي ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل ، فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه أقام المنقص في أحدهما : يعني في مدة الحمل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها : " الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل " . وفي رواية : " ولو بقدر ظل مغزل " . ومثله مما لا يقال إلا سماعا ; لأن المقدرات لا يهتدي العقل إليها وسنخرجه في موضعه إن شاء الله تعالى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم { الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين } فتبقى مدة الفصال على ظاهرها ، غير أن هذا يستلزم كون لفظ ثلاثين مستعملا في إطلاق واحد في مدلول ثلاثين وفي أربعة وعشرين ، وهو الجمع بين الحقيقي والمجازي بلفظ واحد ، وكونه بالنسبة إلى شيئين لا ينفي كونه كذلك وهو الممتنع ، وإلا لم يمتنع ; لأنه ما من جمع إلا بالنسبة إلى شيئين .

وإشكال آخر وهو أن أسماء العدد لا يتجوز بشيء منها في الآخر ، نص عليه كثير من المحققين ; لأنها بمنزلة الإعلام على مسمياتها حتى منعت الصرف مع سبب واحد فقالوا ستة عشر ضعف ثمانية بلا تنوين ، ومما ذكره صاحب النهاية في فصل المشيئة من كتاب الطلاق ، إلا أنه يقتضي أن نحو عشرة إلا اثنين لم يرد به ثمانية بل عشرة فأخرج ثم أسند إلى ثمانية ، وهو قول طائفة من الأصوليين مطلقا ومختار طائفة من المشايخ فيما إذا كان استثناء من عدد منهم شمس الأئمة وفخر الإسلام والقاضي أبو زيد خلاف قول الجمهور وقد حققناه في الأصول .

ويمكن أن يستدل لأبي حنيفة رحمه الله بقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن } الآية بناء على أن المراد من الوالدات المطلقات بقرينة { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } فإن الفائدة في جعله نفقتها من حيث هي ظئر أوجه منها في اعتباره إيجاب نفقة الزوجة ; لأن ذلك معلوم بالضرورة قبل البعثة ، ومن قوله تعالى { لينفق ذو سعة } الآية ; ولأن نفقتها لا تختص بكونها والدة مرضعة بل متعلقة بالزوجية ، بخلاف اعتبارها نفقة الظئر ويكون حينئذ أجرة لها ; لأن النفقة لها باعتبارها ظئرا غير زوجة لا تكون إلا أجرة لها ، واللام من لمن أراد متعلق بيرضعن : أي يرضعن للآباء الذين أرادوا إتمام [ ص: 444 ] الرضاعة وعليهم رزقهن وكسوتهن بالمعروف أجرة لهن في الحولين ، وإذا كانت الواو من وعلى المولود له للحال من فاعل يتم كان أظهر في تقييد الأجرة المستحقة على الآباء أجرة للمطلقة لحولين ، وغاية ما يلزم أنه كان مقتضى الظاهر أن يقال وعليه أو وعليهم لكن ترك للتنبيه على علة الاستحقاق عليه وهو كون الولد منسوبا إليه وأن النسبة إلى الآباء .

والحاصل حينئذ : يرضعن حولين لمن أراد من الآباء أن يتم الرضاعة بالأجرة ، وهذا لا يقتضي أن انتهاء مدة الرضاعة مطلقا بالحولين ، بل مدة استحقاق الأجرة بالإرضاع ، ثم يدل على بقائها في الجملة قوله تعالى { فإن أرادا فصالا } عطفا بالفاء على يرضعن حولين فعلق الفصال بعد الحولين على تراضيهما . وقد يقال : كون الدليل دل على بقاء مدة الرضاع المحرم بعد الحولين ، فأين الدليل على انتهائها لستة أشهر بعدهما بحيث لو أرضع بعدها لا يقع التحريم .

وما ذكر في وجه زيادتها لا يفيد سوى أنه إذا أريد الفطام يحتاج إليها ليعود فيها غير اللبن قليلا قليلا لتعذر نقله دفعة . فأما أنه يجب ذلك بعد الحولين ويكون من تمام مدة التحريم شرعا فليس بلازم مما ذكر من الأدلة ، ولا شك أن الشرع لم يحرم إطعامه غير اللبن قبل الحولين ليلزم زيادة مدة التعود عليهما ، فجاز أن يعود مع اللبن غيره قبل الحولين بحيث تكون العادة قد استقرت مع انقضائهما فيفطم عنده عن اللبن بمرة فليست الزيادة بلازمة في العادة ولا في الشرع ، فكان الأصح قولهما وهو مختار الطحاوي ، وقول زفر على هذا أولى بالبطلان وهو ظاهر ، وحينئذ فقوله تعالى { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } المراد منه قبل الحولين فإنه موضع التردد في أنه يضر بالولد أو لا فيتشاوران ليظهر وجه الصواب فيه .

وأما ثبوت الضرر بعد الحولين فقل أن يقع به من حيث إنه فطام بل إن كان فمن جهة أخرى فتمنعه العمومات المانعة من إدخال الضرر على غير المستحق له .




الخدمات العلمية