الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولحقوق بعض المكلفين على بعض أمثلة كثيرة : منها التسليم عند القدوم ، وتشميت العاطس ، وعيادة المرضى ، ومنها الإعانة على البر والتقوى وعلى كل مباح ، ومنها ما يجب على الإنسان من حقوق المعاملات ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; لأن الأمر بالمعروف سعي في جلب مصالح [ ص: 158 ] المأمور به ، والنهي عن المنكر ، سعي في درء مفاسد المنهى عنه ، وهذا هو النصح لكل مسلم ، وقد بايع صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ، ومنها تحمل الشهادة وأداؤها عند الحكام ، ومنها حكم الحكام والأئمة والولاة بإنصاف المظلومين من الظالمين ، وتوفير الحقوق على المستحقين العاجزين ، وصرف الدعاء عن رب العالمين على ما ذكره عمر أمير المؤمنين ، إذ قال في أول خطبة خطبها : أيها الناس إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء .

وقال أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : أيها الناس إن قويكم عندنا لضعيف حتى نأخذ الحق منه ، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ له الحق ومعنى صرف الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين ولا يحوجهم أن يسألوا الله ذلك .

وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين ، فما أفصح هذه الكلمة وما أجمعها لمعظم حقوق المسلمين ، ومن ذلك حفظ أموال الأيتام والمجانين والعاجزين والغائبين ومنها التقاط الأموال الضائعة والأطفال المهملين ، ومنها الضحايا والهدايا ومنها اصطناع المعروف كله دقه وجله ، ومنها إنظار المعسرين وإبراء المقترين ، ومنها حقوق نكاح النساء على الأولياء ، وحقوق كل واحد من الزوجين على صاحبه ، ومنها القسم بين المتنازعين ، ومنها الرأفة والرحمة إلا في استيفاء العقوبات المشروعات ، ومنها الإحسان إلى الرقيق بأن لا يكلفه ما لا يطيق ، وأن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ، وأن يكرم من يستحق الإكرام من العبيد والإماء ، ولا يفرق بين الوالدة وولدها ، ولا بين الأخت وأختها ، وعلى الأرقاء القيام بحقوق ساداتهم التي حث الشرع عليها وندب إليها ، ومنها ستر الفضائح والكف عن إظهار القبائح ، ومنها الكف عن الشتم والظلم ، ومنها جرح الشهود وتعديلهم وتفطير الصائمين وإبرار المقسمين ، ومنها كسوة العراة وفك العناة ، ومنها القرض والضمان والحجر بالإفلاس [ ص: 159 ] على المرضى فيما زاد على الثلث ، ومنها إعانة القضاة والولاة وأئمة المسلمين على ما تولوه من القيام بتحصيل الرشاد ودفع الفساد وحفظ البلاد وتجنيد الأجناد ومنع المفسدين والمعاندين .

ومنها نصح المستنصحين بل نصح جميع المسلمين ، ومنها بر الوالدين وإسعاف القاصدين ، ومنها الإنكار على الناس باليد ، فإن عجز عن ذلك فباللسان ، أو يكره ذلك بقلبه إن عجز عن اليد واللسان ، وذلك أضعف الإيمان ، ومنها الإنفاق على الأقارب كالآباء والأمهات ، والبنين والبنات ، والأجداد والجدات ، إذ كانوا عاجزين ، ومنها حضانة الأطفال وتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم حسن الكلام ، والصلاة والصيام إذا صلحوا لذلك ، والسعي في مصالح العاجلة والآجلة ، والمبالغة في حفظ أموالهم ودفع الأذى عنهم وجلب الأصلح فالأصلح لهم ، ودرء الأفسد فالأفسد عنهم ، وإذا وجب هذا في حق الأصاغر والأطفال فما الظن بما يلزم القيام به من مصالح المسلمين ; ومنها حسن الصحبة وكرم العشرة ، وكف الأذى وبذل الندى ، وإكرام الضيفان والإحسان إلى الجيران ، وصلة الأرحام وإطعام الطعام وإفشاء السلام ، ومنها العدل في الأقوال والأفعال ، والإحسان والإجمال ، ومنها الوفاء بالعقود والعهود ، وإنجاز الوعود ، وإكرام الوفود ، ومنها الإصلاح بين الناس إذا اقتتلوا واختلفوا وامتنعوا من الحقوق الواجبة ، أو بغوا على الأئمة أو اجترءوا على الأئمة . ومنها إرشاد الحيارى ، وتزويج الأيامى وود الأصدقاء ، وإكرام الأرقاء والبشاشة عند اللقاء ، ومنها أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ، وبلغ من ذلك أن يصل من قطعه ، ويعطي من حرمه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ومنها أن ينزل الناس منازلهم كتعظيم الأنبياء ، وإكرام الأتقياء ، واحترام الأولياء ، وتوقير العلماء ، ورحمة الضعفاء ، ومنها أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن لا يبيع على بيعه ، ولا يسوم على سومه ، ولا يشتري على شرائه ولا يخطب على خطبته ، ولا [ ص: 160 ] يجلس على تكرمته إلا بإذنه ، ولا يظلمه ولا يشتمه ، ولا يبرمه ، ولا يخجله ولا يرحله ولا يعجله ، ولا يحقره ولا يخفره ; ومنها الإيفاء إذا وفى ، والإغضاء إذا استوفى ، ومنها أن يسامح بحقه ، وأن يعفو عما يستحقه على الناس من قصاص أو حد أو تعزير ، وأن يغض بصره عن العورات ، ويجيب الدعوات ، ويقيل العثرات ، ويغفر الزلات ، ويسد الخلات .

وأن يتصدق على الناس بماله وجاهه وجميع ما يقدر عليه من المعروف والمبرات ، ومنها ألا يحاسدهم ولا يقاطعهم ولا يدابرهم ولا يتكبر عليهم ولا يسيء إليهم ، وأن يترك اعتيابهم وهمزهم ولمزهم ، والطعن في أعراضهم والقدح في أنسابهم ، وأن لا يتلقى الركبان ، ولا يحتكر احتكارا يزيد في الأثمان ، وأن لا ينجش ولا يبخس ولا ينقص .

ومن أمثلة حقوق بعض المكلفين على بعض أن ينظر المعسر ، ويتجاوز عن الموسر ويوسع على المقتر ، ولا يماطل بالحقوق ، وأن يجانب العقوق ، ولا يخاتل ولا يماحل ولا يجاحد بالباطل ، ولا يقطع كلام قائل ، ومنها ألا يؤخر الزكاة إذا وجبت ، ولا الديون إذ طلبت ، ولا الأحكام إذا أمكنت ، ولا الشهادة إذا تعينت ، ولا الفتيا إذا تبينت وألا يؤخر حقوق الناس إلا بعذر شرعي وطبعي .

مثال ذلك : أن يؤخر الزكاة لحضور جار أو قريب أو لمن هو أشد ضرورة من الحاضرين ، وإلى حضور نائب أمير المؤمنين فيما يجب دفعه إلى الأئمة المقسطين .

وكذلك الديون لا يجب دفعها إلا عند التمكن من إحضارها فإن كان بها لم يجب دفعها حتى يشهد على مستحقها إقباضها ، دفعا لضرر إنكار المستحق أو من ورثته .

وكذلك الشهادة على الشهادة ، وكذلك تأخير إنكاح الكفء إذا التمسته المرأة مع قرب المسافة .

وكذلك تأخير [ ص: 161 ] ما يتعين من الشهادات إذا كان الشاهد مشغولا بأكل أو شرب أو صلاة ، وكذلك دفع الأمانة إلى أربابها مع الاشتغال بالأكل والشرب أو صلاة النافلة أو الاستحمام ، وقد يختلف في إيجاب بعض الحقوق كوضع الأجذاع وقسمة التعديل عن الامتناع . وإنما أتيت بهذه الألفاظ في هذا الكتاب التي أكثرها مترادفات ، وفي المعاني متلاقيات حرصا على البيان ، والتقرير في الجنان ، كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب وغير ذلك في القرآن ، ولا شك أن في التكرير والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس الإيجاز والاختصار ; ومن نظر إلى تكرير مواعظ القرآن ووصاياه ألقاها كذلك ، وإنما كررها الإله لما علم فيها من إصلاح العباد وهذا هو الغالب المعتاد . ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل خير ، ويدفع عنهم كل ضير ، لكان ذلك جامعا عاما ولكن لا يحصل به من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع .

وكذلك لو قلت في حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصرا عاما ولكن لا يفيد ما يفيده الإطناب والإسهاب .

وكذلك لو قلت في بعض حقوق المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في أولاها وأخراها ، لكان ذلك شاملا لجميع حقوق المرء ، وقد يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب والإكثار ، وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير الواقع في القرآن والعادة شاهدة بخطئه في ظنه ، وما دلت العادة عليه ، وأرشد القرآن إليه ، أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهمون كتاب الله ، وفقنا الله لاتباع كتابه وفهم خطابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية