الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه . فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة فقال : " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " .

              [ ص: 79 ] وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص ، عن أبى ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه " ، وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال : " ثوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب " قال أبو داود : وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس ، وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله ، وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم ، وتأخره في صلاة الكسوف ، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته ، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة ، وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته ، وأمره النساء بالتصفيق ، وإشارته في الصلاة ، وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة .

              ويدل على ذلك أيضا : ما رواه تميم الطائي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعو أيديهم - قال الراوي وهو زهير بن معاوية : وأراه قال : في الصلاة - فقال : ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ اسكنوا في الصلاة " رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية ، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : " كنا إذا صلينا [ ص: 80 ] خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال : ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس ؟ إنما يكفي أحدكم - أو : ألا يكفي أحدكم - أن يقول هكذا - وأشار بإصبعه - يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله " وفي رواية قال : " أما يكفي أحدكم - أو أحدهم - أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ؟ " .

              ولفظ مسلم : " صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا : السلام عليكم ، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده " .

              فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة ، وهذا يقتضي السكون فيها كلها ، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة ، فمن لم يطمئن لم يسكن فيها ، وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها ، وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث .

              ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك - فقد غلط ، فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال .

              ويبين ذلك قوله : " ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل [ ص: 81 ] شمس ؟ " والشمس جمع شموس وهو الذي [ تسميه ] العامة الشموص ، وهو [ الذي ] يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال ، وهى حركة لا سكون فيها .

              وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الاستفتاح ، فذلك مشروع باتفاق المسلمين ، فكيف يكون الحديث نهيا عنه ؟

              وقوله : " اسكنوا في الصلاة " يتضمن ذلك ؛ ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له : أتريد أن تطير ؟ فقال : " إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية ، وإلا فلا " وهذا نقض لما ذكره من المعنى .

              وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع ، فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معارضا ، بل لو [ قدر تعارضها ] فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها ، وهذا الرفع فيه سكون ، فقوله : " اسكنوا في الصلاة " لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة ، بل قوله : " اسكنوا " يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين ، فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ؛ ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة ، فإن [ ص: 82 ] السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشي إليها وهى حركة إليها ، فكيف بالحركة فيها؟ فقال : " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وائتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " .

              وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وائتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " . رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه . قال أبو داود : وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري : " وما فاتكم فأتموا " وقال ابن عيينة عن الزهري " فاقضوا " قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة : " فأتموا " وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : " فأتموا " وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم " قال أبو داود : وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه : " وليقض " وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة ، وأبو ذر رضي الله عنه روي عنه : " فأتموا ، واقضوا " اختلف عنه .

              [ ص: 83 ] فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك ؛ لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال .

              فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى ، لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة ، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام ، وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها ، وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها ، فكيف فيها ؟

              يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد ، فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة " فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردا ، فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك ؟ فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة في المشي ، مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له ، فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها .

              ويدل على ذلك : أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقا فقال : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) [ لقمان : 19 ] ، وقال تعالى : [ ص: 84 ] ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان ] قال الحسن وغيره : بسكينة ووقار ، فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء ، فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة ، فكيف الأفعال العبادية ؟ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود ؟ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط ، وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما ، وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها ، وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به ، كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه .

              وأيضا : فإن الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة ، وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) [ الحج : 77 ] ، وقوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) [ القلم ] وقوله تعالى : ( فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) [ الانشقاق ] وقوله تعالى : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) [ السجدة ] ، وقوله تعالى : ( واسجد واقترب ) [ العلق : 19 ] ، وقوله تعالى : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) [ الحج : 18 ] فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب ، وقوله : ( ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) [ الإنسان ] ، وقوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ ص: 85 ] [ الحجر ] وقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ المرسلات ] وقوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [ المائدة ] وإذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع والسجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم ، وسنته تفسر الكتاب وتبينه ، وتدل عليه وتعبر عنه ، وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله وفسره ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا ، وكان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود ، وتفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن ، وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود ، وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها ، قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة ، والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة ، وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده ، وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع .

              وأيضا : فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات ، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك ؛ إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ؛ ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله ، فلما لم يبين - لا بقوله ولا بفعله - جواز ترك ذلك مع مداومته عليه ، كان ذلك دليلا على وجوبه .

              وأيضا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال لمالك بن [ ص: 86 ] الحويرث وصاحبه : " إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما رأيتموني أصلي " فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي .

              وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم ، ولا معارض لذلك ولا مخصص ، فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد .

              وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال : " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " .

              وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال : " أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود ، فقلنا له : حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام بين أيدينا في المسجد فكبر ، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، فقام حتى استقر كل شيء منه ، ثم كبر وسجد ووضع كفه على الأرض ، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ، ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ، ففعل ذلك أيضا ، ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ، ثم قال : هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي " .

              [ ص: 87 ] وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين ، وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه ، ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك ، وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولا وفعلا ، ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية