الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما الجوابر المتعلقة بالأموال فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها ، وإن ردها ناقصة الأوصاف جبر أوصافها بالقيمة ، لأن الأوصاف ليست من ذوات الأمثال ، إن ردها ناقصة القيمة موفرة الأوصاف لم يضمن ما نقص قيمتها بانخفاض الأسواق خلافا لأبي ثور ، لأنه لم يفت شيئا من أجزائها ولا من أوصافها . مثاله : إذا غصب حنطة تساوي مائة فردها وهي تساوي عشرة ، أو غصب ثوبا يساوي عشرة فرده وهو يساوي خمسة لانحطاط الأسعار لأن الغاية رغبات الناس وهي غير متقومة في الشرع ، والصفات والمنافع لا يمكن رد أعيانها فتضمن الصفات عند الفوات بما نقص من قيم الأعيان .

وتضمن المنافع بأجور الأمثال إذا تعذر رد الأعيان ، ولها حالان : أحدهما أن تكون من ذوات الأمثال فتجبر بما يماثلها في المالية وجميع الأوصاف الخلقية كضمان البر بالبر ، والزيت بالزيت ، والسمسم بالسمسم ، والشيرج بالشيرج ، وإنما يجب جبرها لقيامها من جميع الوجوه وجميع الأعراض ; فإن الأعيان إذا تساوت في قدر المالية وفي الأوصاف الخلقية فقد حصل الجبر بما يقصده العقلاء من المالية والأوصاف وجميع الأعراض ، ولا مبالاة بتفاوت العين إذ لا يتعلق به غرض عاقل بعد الفوات ولا يعدل ذلك إلا في صورتين : إحداهما إذا أدى إلى نقص المالية مثل أن يشرب المضطرون ماء مغصوبا في مظان فقد [ ص: 181 ] الماء وغلاء ثمنه وارتفاع قيمته فإنهم يضمنونه إذا حضروا بقيمته في محل عزته كي لا تضيع على مالكه قيمته وماليته ، وكذلك نظائره .

المثال الثاني : جبر لبن المصراة بالتمر فإنه مثلي خارج عن جبر الأعيان بالقيم والأمثال ، وإنما نحكم بذلك لأنا لا نعلم ما اختلط من لبن البائع بلبن المشتري فتولى الشرع تقديره ، إذ لا سبيل لنا إلى تقديره ، وجعله بالتمر لموافقته للبن في الاقتيات ولعزة التقدير عند العرب . فإن قيل : لو جبر المال المقطوع بحله بمثله من مال أكثره حرام فقد فات وصف مقصود في الشرع وعند أولي الألباب ، فهل يجبر المستحق على أخذه مع التفاوت الظاهر بين الحلال المحض وبين ما تمكنت بشبهة الحرام ؟ قلنا : في هذا نظر واحتمال وظاهر حكمهم أنه يجبر على أخذه كما يجبر رب الدين على أخذ مال اعترف بأنه حرام ، وفي هذا أيضا بعد وإشكال .

الحال الثانية : من تعذر رد الأعيان أن تكون العين من ذوات القيم كالشاة والبعير والعبد والفرس فيجبر كل واحد منهما بما يماثله في القيمة والمالية لتعذر جبره بما يماثله في سائر الصفات ، فإن أتلفه متلف ليس في يده بأن أحرق دارا ليست في يده ، أو قتل عبدا في يد سيده ، أو أتلف دابة في يد راكبها فإنه يجبر ذلك بقيمته وقت إتلافه لأنها هي التي فوتها .

وإن فات شيء من ذلك تحت يده الضامنة بتفديته أو بتفويته أو بتفويت غيره أو بآفة سماوية فإنه يخير عند الشافعي رحمه الله بقيمته أكبر ما كانت من حين وضع يده إلى حين الفوات تحت يده ، لأنه مطالب برده في كل زمان ، فلذلك وجب عليه أقصى قيمة . وقال بعض العلماء : يجبر كل شيء بمثله من حيث الخلقة وإن تفاوتت أوصافه ، وهذا إن شرط التساوي في المالية فقريب ، وإن لم يشترط ذلك فقد أبعد عن الحق ونأى عن الصواب ، فإن جبره بأكثر من قيمته ظلم لغاصبه ، وجبره بدون قيمته [ ص: 182 ] ظلم لمالكه بما نقص من ماليته ، ولا يجوز القياس على جبر الصيد بالمثل من النعم ، فإن ذلك تعبد حائد عن قواعد الجبر .

وأما صفات الأموال فليست من ذوات الأمثال ، والطريق إلى جبرها إذا فاتت بسبب مضمن أو فاتت تحت الأيدي الضامنة أن تقوم العين على أوصاف كمالها ، ثم تقوم على أوصاف نقصانها فيجبر التفاوت بين الصفتين بما بين القيمتين مثل إن غصب شابة حسنة فصارت عنده عجوزا شوهاء فيجبر ما فات من صفة شبابها ونضارتها بما بين قيمتيها ، وكذلك لو عيب شيئا من الأموال فإنه يجبره بما بين قيمته سليما ومعيبا ، وكذلك لو هدم دارا فإنه يجبر تأليفها بما بين قيمتها في حالتي البناء والانهدام ، لأن تأليفها ليس من ذوات الأمثال . وقد نص الشافعي رحمه الله على أن الغاصب لو حفر الأرض فنقصت بحفر لزمه أن يرد التراب إلى حفره ليسوي الأرض كما كانت . وهذا قضاء بأن تأليف بعض التراب إلى بعض وتسوية الحفر من ذوات الأمثال ، فإنه لو كان من ذوات القيم لأوجب عليه أرش النقصان ، وعلى هذا لو رفع خشبة من جدار أو حجرا من بين أحجار ثم ردهما إلى مكانيهما أجزأه ذلك لأنه محصل لمثل الغرض الأول من غير تفاوت ، فأشبه تسوية الحفر وطم الآبار تنزيلا لتماثل التأليفات منزلة تماثل المثليات . وعلى هذا لو نقض قصرا مبنيا بالأحجار من غير طين ولا جيار وأمكن أن يرد كل حجر في مكانه من غير تفاوت لم يلزمه سوى ذلك كما لا يلزمه شيء إذا سوى الحفر وطم الآبار وقد ذكر بعض الأصحاب أن الشريك إذا هدم الجدار المشترك أجبر على إعادته ، فإن أراد بذلك ما لا يساوي تأليفه فهو صواب ، وإن أراد بذلك وجوب الإعادة مع تفاوت التأليف فهو خارج عن قياس الشرع ، وإبدال المتلفات لأدائه إلى إبدال الفائت بدونه أو بأفضل منه . [ ص: 183 ] فإن قيل : لو زادت قيمة المتلف بصفة ترغب بمثلها العصاة وتزيد بها القيم عندهم كالكبش النطاح والديك المهراش والغلام الفاتن بحسن صورته وحركته فإن لهؤلاء قيمة زائدة عند أهل الفساد على القيمة المعتبرة عند أهل الصلاح ؟ قلنا : لا نظر إلى ذلك لفساد الغرض المتعلق به ، كما لا نظر إلى قيمة الزمر والكوبة والصور المحرمة ، وإنما العبرة بقيمة ذلك عند أهل الرشد والصلاح كما في كسر الأوثان والصلبان .

وأما جبر الأروش في المعاملات فحكمه حكم جبر الصفات يقوم العرض صحيحا ومعيبا ويحسب ما بين القيمتين منسوبا إلى الثمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية