الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وترد صيغة افعل ) لمعان كثيرة . أحدها كونها ( لوجوب ) نحو قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما [ ص: 322 ] رأيتموني أصلي } ( و ) الثاني : ل ( ندب ) نحو قوله تعالى { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فإنه للندب على الأصح من مذهب الإمام أحمد وجماعة من العلماء ، وعند داود الظاهري وجمع : أنه للوجوب . وقال في شرح التحرير : حمل الآية على الوجوب هو الصحيح من مذهب أحمد وأصحابه ، مع قوله في كتابه الإنصاف إن كون الكتابة مستحبة لمن علم فيه خير : المذهب بلا ريب ، وذكره عن جماهير الأصحاب ، فليعاود ذلك من أراده ( و ) الثالث : كونها بمعنى ( إباحة ) نحو قوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } وقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } واعلم أن الإباحة إنما تستفاد من خارج .

فلهذه القرينة يحمل الأمر عليها مجازا بعلاقة المشابهة المعنوية . لأن كلا منهما مأذون فيه ( و ) الرابع : كونها بمعنى ( إرشاد ) نحو قوله سبحانه وتعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقوله تعالى { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } والضابط في الإرشاد : أنه يرجع إلى مصالح الدنيا ، بخلاف الندب ، فإنه يرجع إلى مصالح الآخرة ، وأيضا : الإرشاد لا ثواب فيه ، والندب فيه الثواب ( و ) الخامس : كونها بمعنى ( إذن ) نحو قول من بداخل مكان للمستأذن عليه : ادخل ، ومنهم من يدخل هذا في قسم الإباحة . وقد يقال : الإباحة إنما تكون من صيغ الشرع الذي له الإباحة والتحريم ، وإنما الإذن يعلم بأن الشرع أباح دخول ملك ذلك الآذن مثلا ، فتغايرا ( و ) السادس : كونها بمعنى ( تأديب ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة في حال صغره { يا غلام : سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك } متفق عليه .

ومنهم من يدخل ذلك في قسم الندب . منهم البيضاوي . ومنهم من قال : يقرب من الندب ، وهو يدل على المغايرة . والظاهر . أن بينهما عموما وخصوصا من وجه ; لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق ، وذلك أعم من أن يكون من مكلف ، أو غيره ; لأن عمر كان صغيرا . والندب مختص بالمكلفين ، وأعم من أن يكون من [ ص: 323 ] محاسن الأخلاق وغيرها ( و ) السابع : كونها بمعنى ( امتنان ) نحو قوله تعالى { وكلوا مما رزقكم الله } وسماه أبو المعالي : الإنعام . والفرق بينه وبين الإباحة : أن الإباحة مجرد إذن ، والامتنان لا بد فيه من اقتران حاجة الخلق لذلك وعدم قدرتهم عليه ، والعلاقة بين الامتنان والوجوب : المشابهة في الإذن إذ الممنون لا يكون إلا مأذونا فيه ( و ) الثامن : كونها بمعنى ( إكرام ) نحو قوله تعالى { ادخلوها بسلام آمنين } فإن قرينة بسلام آمنين يدل على الإكرام ( و ) التاسع : كونها بمعنى ( جزاء ) نحو قوله تعالى { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } ( و ) العاشر : كونها بمعنى ( وعد ) نحو قوله تعالى { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } { وقوله صلى الله عليه وسلم لبني تميم أبشروا } وقد يقال بدخول ذلك في الامتنان . فإن بشرى العبد منة عليه ( و ) الحادي عشر : كونها بمعنى ( تهديد ) نحو قوله تعالى { اعملوا ما شئتم } وقوله تعالى { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم } ( و ) الثاني عشر : كونها بمعنى ( إنذار ) نحو قوله تعالى { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } وقد جعله قوم قسما من التهديد ، وهو ظاهر البيضاوي ، والصواب المغايرة . والفرق : أن التهديد هو التخويف ، والإنذار : إبلاغ المخوف . كما فسره الجوهري بهما . وقيل : الإنذار يجب أن يكون مقرونا بالوعيد كالآية والتهديد لا يجب فيه ذلك ، بل قد يكون مقرونا وقد لا يكون مقرونا وقيل : التهديد عرفا أبلغ في الوعيد والغضب من الإنذار ( و ) الثالث عشر : كونها بمعنى ( تحسير ) وتلهيف ، نحو قوله تعالى { قل موتوا بغيظكم } ومثله قوله تعالى { اخسئوا فيها ولا تكلمون } حكاه ابن فارس ( و ) الرابع عشر : كونها بمعنى ( تسخير ) نحو قوله تعالى { كونوا قردة خاسئين } والمراد بالتسخير هنا : السخرية بالمخاطب به ، لا بمعنى التكوين ، كما قاله بعضهم ( و ) الخامس عشر : كونها بمعنى ( تعجيز ) نحو قوله تعالى { فأتوا [ ص: 324 ] بسورة من مثله } والعلاقة بينه وبين الوجوب المضادة ; لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات ، والإيجاب في الممكنات . ومثله قوله تعالى { فليأتوا بحديث مثله } ومثله بعضهم بقوله تعالى { قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم } والفرق بين التعجيز والتسخير : أن التسخير نوع من التكوين فمعنى { كونوا قردة } انقلبوا إليها . وأما التعجيز : فإلزامهم أن ينقلبوا ، وهم لا يقدرون أن ينقلبوا . قال ابن عطية في تفسيره : في التمسك بهذا نظر . وإنما التعجيز حيث يقتضي الأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب نحو قوله تعالى { فادرءوا عن أنفسكم الموت } ( و ) السادس عشر : كونها بمعنى ( إهانة ) نحو قوله تعالى { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ومنهم من يسميه التهكم . وضابطه : أن يؤتى بلفظ ظاهره الخير والكرامة ، والمراد ضده ، ويمثل بقوله تعالى { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } والعلاقة أيضا فيهما المضادة ( و ) السابع عشر : كونها بمعنى ( احتقار ) نحو قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام يخاطب السحرة { ألقوا ما أنتم ملقون } إذ أمرهم في مقابلة المعجزة حقير ، وهو مما أورده البيضاوي ، والفرق بينه وبين الإهانة : أن الإهانة إما بقول أو فعل أو تقرير . كترك إجابته أو نحو ذلك ، لا بمجرد اعتقاد . والاحتقار : قد يكون بمجرد الاعتقاد . فلهذا يقال في مثل ذلك : احتقره ، ولا يقال : أهانه ( و ) الثامن عشر : كونها بمعنى ( تسوية ) نحو قوله تعالى { فاصبروا أو لا تصبروا } بعد قوله تعالى { اصلوها } أي هذه التصلية لكم ، سواء صبرتم أو لا .

فالحالتان سواء ، والعلاقة المضادة . لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه { فاختص على ذلك أو ذر } رواه البخاري ( و ) التاسع عشر : كونها بمعنى ( دعاء ) نحو قوله تعالى { ربنا اغفر لي ولوالدي } { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } وكله طلب أن يعطيهم ذلك على وجه التفضل والإحسان . والعلاقة بينه وبين الإيجاب طلب أن يقع ذلك لا محالة ( و ) العشرون : كونها بمعنى ( تمن ) كقول امرئ القيس

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

[ ص: 325 ] وإنما حمل على التمني دون الترجي ; لأنه أبلغ . لأنه نزل ليله لطوله منزلة المستحيل انجلاؤه . كما قال الآخر

وليل المحب بلا آخر

قال بعضهم ; والأحسن تمثيل هذا كما مثله ابن فارس لشخص تراه : كن فلانا . وفي الحديث : { قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو على طريق تبوك كن أبا ذر ورأى آخر فقال : كن أبا خيثمة } لأن امرأ القيس قد يدعي استفادة التمني منه من " ألا " لا من صيغة افعل ، بخلاف هذا المثال . وقد يقال : إن " ألا " قرينة إرادة التمني بافعل ، وأما " كن فلانا " فليس أن يكون إياه ، بل الجزم به ، وأن ينبغي أن يكون ذلك فلما احتمل أن هذا في المثالين . ذكرتهما ( و ) الحادي والعشرون : كونها بمعنى ( كمال القدرة ) نحو قوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } هكذا سماه الغزالي والآمدي ، وبعضهم عبر عنه بالتكوين ، وسماه القفال وأبو المعالي وأبو إسحاق الشيرازي : التسخير ، فهو تفعيل من " كان " بمعنى وجد ، فتكوين الشيء إيجاده من العدم . والله تعالى هو الموجد لكل شيء وخالقه ( و ) الثاني والعشرون : كونها بمعنى ( خبر ) نحو قوله تعالى { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } وقوله تعالى { فليمدد له الرحمن مدا } وقوله تعالى { ولنحمل خطاياكم } وقوله تعالى { أسمع بهم وأبصر } ومنه على رأي { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } وذلك لأنه لما جاء الخبر بمعنى الأمر في قوله تعالى { والوالدات يرضعن } وقوله تعالى { والمطلقات يتربصن } جاء الأمر بمعنى الخبر ، والخبر وكذا جاء الخبر بمعنى النهي ، كما في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها } بالرفع ; إذ لو كان نهيا لجزم ، فيكسر لالتقاء الساكنين . قال أرباب المعاني : وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ; لأن المتكلم لشدة طلبه نزل المطلوب بمنزلة الواقع لا محالة ، ومن هنا تعرف العلاقة في إطلاق الخبر بمعنى الأمر والنهي ( و ) الثالث والعشرون : كونها بمعنى ( تفويض ) نحو قوله تعالى [ ص: 326 ] { فاقض ما أنت قاض } ذكره أبو المعالي . ويسمى أيضا : التحكيم .

وسماه ابن فارس والعبادي : التسليم ، وسماه نصر بن محمد المروذي : الاستبسال .

وقال : أعلموه أنهم قد استعدوا له بالصبر ، وأنهم غير تاركين لدينهم ، وأنهم يستقلون ما هو فاعل في جنب ما يتوقعونه من ثواب الله سبحانه وتعالى . قال : ومنه قول نوح عليه السلام { فأجمعوا أمركم } أخبرهم بهوانهم ( و ) الرابع والعشرون : كونها بمعنى ( تكذيب ) نحو قوله تعالى { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } ومنه قوله تعالى { فأتوا بسورة من مثله } { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون } ( و ) الخامس والعشرون : كونها بمعنى ( مشورة ) نحو قوله تعالى { فانظر ماذا ترى } في قول إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام إشارة إلى مشاورته في هذا الأمر . وهو قوله { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } ذكره العبادي ( و ) السادس والعشرون : كونها بمعنى ( اعتبار ) نحو قوله تعالى { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر ( و ) السابع والعشرون : كونها بمعنى ( تعجب ) نحو قوله تعالى { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } قاله الفارسي . ومثله الهندي بقوله تعالى { كونوا حجارة أو حديدا } وتقدم أن بعضهم مثل به للتعجيز ، وأن ابن عطية قال : فيه نظر . قال البرماوي : وهو الظاهر . فإن التمثيل به للتعجب أوضح ; لأن المراد به التعجب ( و ) الثامن والعشرون : كونها بمعنى ( إرادة امتثال أمر آخر ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم { كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل } فإن المقصود الاستسلام والكف عن الفتن . فهذا الذي وقع اختيارنا عليه . وقد ذكر جماعة من العلماء أشياء غير ذلك مما فيه نظر . فمنها ، وهو التاسع والعشرون : كونها بمعنى ( التخيير ) نحو قوله تعالى { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ذكره القفال . وقد يقال : نفس صيغة افعل ليس فيها تخيير إلا بانضمام أمر آخر يفيده ، لكن مثل ذلك يأتي [ ص: 327 ] في التسوية . ومنها ، وهو الثلاثون : الاختيار . نحو قوله صلى الله عليه وسلم { فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا } بدليل { فإنه لا يدري أين باتت يده } قال البرماوي : وهذا داخل تحت الندب . فلا حاجة إلى إفراده . قال في شرح التحرير قلت : ليس في هذا صيغة أمر ، إنما هو صيغة نهي كما ترى . انتهى .

ومنها ، وهو الحادي والثلاثون : الوعيد . نحو قوله تعالى { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ولكن هذا من التهديد وقال بعضهم : التهديد أبلغ من الوعيد . ومنها ، وهو الثاني والثلاثون : الالتماس . كقولك لنظيرك : افعل .

وهذا يأتي على رأي ، وهو وشبهه مما يقل جدواه في دلائل الأحكام . ومنها ، وهو الثالث والثلاثون : التصبر . نحو قوله تعالى { لا تحزن إن الله معنا } { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } ذكره القفال . ومنها ، وهو الرابع والثلاثون : قرب المنزلة ، نحو قوله تعالى { ادخلوا الجنة } ذكره بعضهم . ومنها ، وهو الخامس والثلاثون : التحذير والإخبار عما يئول الأمر إليه ، نحو قوله تعالى { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } قاله الصيرفي ( وكنهي ) في المعنى ( دع ، واترك ) وكف ، وأمسك نفسك عن كذا . ونحوه .

لما كان من أبعاض " افعل " ما يدل على الكف عن الفعل . احتيج إلى التنبيه على إخراجها . ولهذا قال في جمع الجوامع في حد الأمر : إنه اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير كف ، أي مدلول على الكف الذي هو المصدر بغير كف الذي هو فعل أمر . فقوله " اقتضاء فعل " أي طلب فعل ، وهو جنس يشمل الأمر والنهي ، وتخرج الإباحة وغيرها مما تستعمل منه صيغة الأمر . وليس أمرا ، وقوله " غير كف " فصل خرج به النهي . فإنه طلب فعل هو كف . وقوله " مدلول عليه بغير كف " صفة لقوله : كف .

التالي السابق


الخدمات العلمية