الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 199 ] ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده فهو معطل فرعوني ضال مبتدع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا .

ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صدق موسى في أن ربه في السماوات، فلما كان ليلة المعراج وعرج به إلى الله تعالى وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه لما رجع إلى موسى قال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح .

فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال. قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.

وقد قال الله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، وقال: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ، وقال: بل رفعه الله إليه ، [ ص: 200 ] وقال: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، وقال: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ، وقال تعالى: وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون .

فدل ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت قدرته.

والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبا للرسول - صلى الله عليه وسلم - متبعا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه نافيا له، فلا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يسأله ويقصده. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل.

والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، لا يقصدونه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط "يا الله" إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة.

والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكان، إن أراد به أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها فقد [ ص: 201 ] أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوق السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك إله يعبد، ومحمد لم يعرج به إلى الله فهذا جهمي فرعوني معطل.

ومنشأ الضلال أن يظن أن صفات الرب كصفات خلقه، فيظن أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريره لسقط، والله غني عن العرش وعن كل شيء، والعرش وكل ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله قد جعل المخلوقات عاليا وسافلا، وجعل العالي غنيا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو مفتقرا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجة إليه. فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيا عن العرش وسائر المخلوقات وإن كان عاليا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

التالي السابق


الخدمات العلمية