الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن خالف ) معطوف على قوله [ ص: 451 ] فإن وافق " يعني ، وإن خالف المفهوم - وهو المسكوت عنه - حكم المنطوق ( ف ) هو ( مفهوم مخالفة ) ويسمى دليل الخطاب ، وإنما سمي بذلك ; لأن دلالته من جنس دلالات الخطاب ، أو لأن الخطاب دال عليه ، أو لمخالفته منطوق الخطاب ، وللعمل بمفهوم المخالفة شروط ، بعضها راجع للمسكوت عنه ، وبعضها راجع للمذكور ، فمن الأول : ما أشار إليه بقوله ( وشرطه : أن لا تظهر أولوية ) بالحكم من المذكور ( ولا مساواة في مسكوت عنه ) إذ لو ظهرت فيه أولوية أو مساواة ، كان حينئذ مفهوم موافقة ، ومن الثاني : ما أشار إليه بقوله ( ولا خرج مخرج الغالب ) فأما إن خرج مخرج الغالب فلا يعتبر مفهومه ، نحو قوله تعالى { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فإن تقييد تحريم الربيبة بكونها في حجره - لكونه الغالب - لا يدل على حل الربيبة التي ليست في حجره عند جماهير العلماء . ومنه قوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا } وقوله تعالى { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } ونحو ذلك .

وقال داود : إنه شرط في تحريم الربيبة وقال مالك باعتباره ، فلم يحرم الربيبة الكبيرة وقت التزوج بأمها في قول له ; لأنها ليست في حجره . وقال به علي رضي الله عنه فيما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ( ف ) على اشتراط كون مفهوم المخالفة لا يكون خرج مخرج الغالب ( لا يعم ) ولهذا احتج العلماء من أصحابنا وغيرهم على اختصاص تحريم الربيبة بالحجر بالآية ، وأجابوا بأنه لا حجة فيها ، لخروجها على الغالب ( و ) من شرطه أيضا : أن ( لا ) يكون خرج ( مخرج تفخيم ) كحديث { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث } - الحديث " فقيد " الإيمان " للتفخيم في الأمر ، وأن هذا لا يليق بمن كان مؤمنا ( ولا ) خرج اللفظ ( جوابا لسؤال ) يعني أنه إذا خرج اللفظ جوابا لسؤال لم يعمل بمفهومه ذكره المجد في شرح الهداية في صلاة التطوع اتفاقا ، مثل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فلا يلزم من جواب السؤال عن إحدى الصفتين أن يكون الحكم على الضد في الأخرى ، لظهور [ ص: 452 ] فائدة في الذكر غير الحكم بالضد .

وذكر القاضي في ذلك احتمالين ، أحدهما كالأول ، والثاني : أنه من باب ورود العام على سؤال أو حادثة صارفا له عن عمومه فإن قيل : لم جعلوا هنا السؤال والحادثة قرينة صارفة عن القول بهذا الحكم في المسكوت ، ولم يجعلوا ذلك في ورود العام على سؤال أو حادثة صارفا له عن عمومه على الأرجح ، بل لم يجروا هنا ما أجروه هناك من الخلاف في أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ أجيب : بأن المفهوم لما ضعف عن المنطوق في الدلالة اندفع بذلك ونحوه . وقوة اللفظ في العام تخالف ذلك ، ولقوة اللفظ في العام ادعى الحنفية أن دلالته على كل فرد من أفراده قطعية ومن شرط العمل بمفهوم المخالفة أيضا : أن لا يكون المنطوق ذكر ( لزيادة امتنان ) على المسكوت عنه ، نحو قوله - جل وعلا - { لتأكلوا منه لحما طريا } فلا يدل على منع القديد من لحم ما يؤكل مما يخرج من البحر كغيره ( ولا لحادثة ) يعني أنه يشترط أيضا في مفهوم المخالفة : أن لا يكون المنطوق خرج لبيان حكم حادثة اقتضت بيان الحكم في المذكور ، كما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميمونة فقال : دباغها طهورها } وكما لو قيل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم : لزيد غنم سائمة فقال " في السائمة الزكاة " إذ القصد الحكم على تلك الحادثة ، لا النفي عما عداها ومن هذا قوله تعالى " { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فإنه ورد على ما كانوا يتعاطونه في الآجال : أنه إذا حل الدين يقولون للمديون : إما أن تعطي ، وإما أن تزيد في الدين ، فيتضاعف بذلك مضاعفة كثيرة .

( و ) يشترط أيضا للعمل بالمفهوم أن ( لا ) يكون المنطوق ذكر ( لتقدير جهل المخاطب ) به ، دون جهله بالمسكوت عنه ، بأن يكون المخاطب يعلم حكم المعلوفة ويجهل حكم السائمة فيذكر له ( و ) يشترط أيضا للعمل بالمفهوم أن ( لا ) يكون للمنطوق ذكر ( لرفع خوف ونحوه ) عن المخاطب . كقولك لمن يخاف من ترك الصلاة الموسعة : تركها في أول الوقت جائز ، ليس مفهومه عدم الجواز في باقي الوقت وهكذا إلى أن يتضايق . ويشترط أيضا للعمل بالمفهوم أن ( لا ) يكون المنطوق ( علق [ ص: 453 ] حكمه على صفة غير مقصودة ) ذكره القاضي وغيره قال ابن مفلح في أصوله ، وإن كانت الصفة غير مقصودة فلا مفهوم ، كقوله سبحانه وتعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء } - الآية " أراد نفي الحرج عمن طلق ولم يمس ، وإيجاب المتعة تبعا . ذكره القاضي وغيره من المتكلمين .

ومما يذكر من شروط العمل بالمفهوم : أن لا يعود العمل به على الأصل الذي هو المنطوق فيه بالإبطال ، كحديث { لا تبع ما ليس عندك } لا يقال : مفهومه صحة بيع الغائب إذا كان عنده ، إذ لو صح فيه لصح في المذكور ، وهو الغائب الذي ليس عنده ; لأن المعنى في الأمرين واحد ، ولم يفرق أحمد بينهما ، ولم أذكر ذلك في المتن لظهوره ، كترك نحوه من الشروط مما لا حاجة لذكره ثم الضابط لهذه الشروط وما في معناها أن لا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه وعلى ذلك اقتصر البيضاوي إذا تقرر هذا فما تقدم من الشروط يقتضي تخصيص المذكور بالذكر ، لا نفي الحكم عن غيره ، ولكن وراء هذا بحث آخر ، وهو أن المقترن من المفاهيم بما يمنع القول به ; لوجود فائدة تقتضي التخصيص في المذكور بالذكر ، هل يدل اقترانه بذلك على الغاية وجعله كالعدم ، فيصير المعروض بقيد المفاهيم ، إذا كان فيه لفظ عموم شاملا للمذكور والمسكوت ، حتى لا يجوز قياس المسكوت بالمذكور بعلة جامعة ; لأنه منصوص ، فلا حاجة لإثباته بالقياس ، إذ لا يدل ، بل غايته الحكم على المذكور ، وأما غير المذكور فمسكوت عن حكمه ، فيجوز حينئذ قياسه ؟ مثاله في الصفة - مثلا - لو قيل : هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فيقول المسئول : في الغنم السائمة زكاة ، فغير السائمة مسكوت عن حكمه ، فيجوز قياسه على السائمة ، بخلاف ما لو ألغى لفظ " السائمة . " وصار التقدير : في الغنم زكاة ، فلا حاجة حينئذ لقياس المعلوفة بالسائمة ; لأن لفظ " الغنم " شامل لهما ؟ في ذلك خلاف بين العلماء قال البرماوي : والمختار الثاني ، حتى أن بعضهم حكى فيه الإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية