الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          كتاب الرؤيا

                                                                                                          باب ما جاء في الرؤيا

                                                                                                          حدثني عن مالك عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة

                                                                                                          [ ص: 556 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 556 ] 52 - كتاب الرؤيا

                                                                                                          1 - باب ما جاء في الرؤيا

                                                                                                          بالقصر مصدر كالبشرى مختصة غالبا بشيء محبوب يرى مناما كذا قاله جمع .

                                                                                                          وقال آخرون : الرؤيا كالرؤية جعلت ألف التأنيث فيها مكان تاء التأنيث للفرق بين ما يراه النائم واليقظان .

                                                                                                          1781 1733 - ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) ، زيد ( الأنصاري عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الرؤيا الحسنة ) ، أي الصادقة ، أو المبشرة احتمالان للباجي ( من الرجل الصالح ) ، وكذا المرأة الصالحة اتفاقا ، حكاه ابن بطال ، والمراد غالب رؤيا الصالحين ، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث ، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم .

                                                                                                          ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ، مجازا لا حقيقة ; لأن النبوة انقطعت بموته - صلى الله عليه وسلم - وجزء النبوة لا يكون نبوة ، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة ، نعم إن وقعت منه - صلى الله عليه وسلم - فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة ، وقيل : إن وقعت من غيره ، فهي جزء من علم النبوة لأنها ، وإن انقطعت فعلمها باق ، وتعقب بقول مالك ، كما حكاه ابن عبد البر حين سئل : أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أبالنبوة يلعب ؟ ثم قال : الرؤيا جزء من النبوة .

                                                                                                          وأجيب بأنه لم يرد أنها نبوة باقية ، وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بلا علم ، فليس المراد أنها نبوة من جهة الاطلاع ; لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة ، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له ، كمن قال : أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ، قال أبو عمر : مفهومه أنها من غير الصالح لا يقطع بأنها كذلك ، ويحتمل أنه خرج [ ص: 557 ] على جواب سائل ، فلا مفهوم له ، ويؤيده قوله في مرسل عطاء الآتي : يراها الرجل الصالح ، أو ترى له ، فعم قوله يرى الصالح وغيره ، ثم يحتمل أن الرؤيا نوع من ستة وأربعين نوعا من نزول الوحي ; لأنه كان يأتي على ضروب ، وأن تكون جزءا من النبوة ; لأن فيها ما يعجز كالطيران ، وقلب الأعيان ، وذلك ركن من أركان النبوة ، أو لما فيها من الاطلاع على الغيب ; لأن الرائي يخبر بعلم ما غاب ، والأول أولى ، وأشبه بالأصول ، انتهى ، ملخصا .

                                                                                                          وقال ابن العربي : أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك ، أو نبي ، وإنما القدر الذي أراد - صلى الله عليه وسلم - بيانه أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة ; لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما ، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة .

                                                                                                          وقال المازري : هو مما أطلع الله عليه نبيه ، ولا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة ، وتفصيلا ، فقد جعل الله للعالم حدا يقف عنده ، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا ، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا ، وهذا من هذا القبيل .

                                                                                                          ونقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي : أن بعض العلماء ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر ، ثم أوحى إليه بعد ذلك يقظة بقية حياته ، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثة وعشرين سنة على الصحيح .

                                                                                                          قال ابن بطال : هذا بعيد من وجهين : أحدهما أنه اختلف في قدر المدة التي بعد البعثة ، والثاني أنه يبقى حديث سبعين جزءا لا معنى له .

                                                                                                          وقال الخطابي : هذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب ، والعدد ، فأول ما يجب على قائله أن يثبت ما ادعاه خبرا ، ولم نسمع فيه أثرا ، ولا ذكر مدعيه فيه خبرا ، فكأنه قاله على سبيل الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته كأعداد الركعات ، وأيام الصيام ، ورمي الجمار فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها ، ولم يقع ذلك في موجب اعتقادنا للزومها ، قال : ولئن سلمنا أن هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة ، لكنه يلحق بها سائر الأوقات التي أوحي إليه فيها مناما في طول المدة ، كرؤيا أحد ودخول مكة ، فتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب ، فتبطل القسمة التي ذكرها .

                                                                                                          وأجيب عن هذا بأن المراد على تقدير الصحة ، وحي المنام المتابع ، فما وقع في غضون وحي اليقظة يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة ، فهو مغمور في جانب وحيها فلم تعتبر به ، وقد ذكروا مناسبات غير ذلك يطول ذكرها .

                                                                                                          وفي مسلم من حديث أبي هريرة : " جزء من خمسة وأربعين " ، وله أيضا عن ابن عمر : " جزء من سبعين جزءا " ، وللطبراني عنه : " من ستة وسبعين " ، وسنده ضعيف .

                                                                                                          وعند ابن عبد البر عن ثابت عن أنس : " جزء من ستة وعشرين " ، وعند ابن جرير عن ابن عباس : " جزء من خمسين " ، وللترمذي عن أبي رزين : " جزء من أربعين " ، ولابن جرير عن عبادة : [ ص: 558 ] " جزء من أربعة وأربعين " ، وابن النجار عن ابن عمر : " جزء من خمس وعشرين " ، ووقع في شرح مسلم للنووي : وفي رواية عبادة : " من أربع وعشرين " ، فإن لم يكن تصحيفا ، فالجملة عشر روايات ، والمشهور " ستة وأربعين " ، وهو ما في أكثر الأحاديث .

                                                                                                          قال الحافظ : ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد بأنه بحسب الوقت الذي حدث فيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه ، حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك ، وذلك وقت الهجرة ، ولما أكمل عشرين حدث بأربعين ، ولما أكمل اثنين وعشرين ، حدث بأربعة وأربعين ، ثم بعدها بخمسة وأربعين ، ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته ، وما عدا ذلك من الروايات فضعيف .

                                                                                                          ورواية خمسين يحتمل جبر الكسر والسبعين للمبالغة ، وعبر بالنبوة دون الرسالة لأنها تزيد بالتبليغ بخلاف النبوة ، فاطلاع على بعض الغيب وكذلك الرؤيا ، فإن قيل : فإذا كانت جزءا من النبوة ، فكيف يكون للكافر منها نصيب كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف ، ورؤيا ملكهم وغير ذلك .

                                                                                                          وقد ذكر أن جالينوس عرض له ورم في المحل الذي يتصل منه بالحجاب ، فأمره الله في المنام بفصد العرق الضارب من كفه اليسرى فبرأ .

                                                                                                          بأن الكافر ، وإن لم يكن محلا لها ، فلا يمتنع أن يرى ما يعود عليه بخير دنياه ، كما أن كل مؤمن ليس محلا لها ، ثم لا يمتنع رؤيته ما يعود عليه بخير دنيوي ، فإن الناس في الرؤيا ثلاث درجات : الأنبياء ورؤياهم كلها صدق ، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير .

                                                                                                          والصالحون ، والغالب على رؤياهم الصدق ، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير ، وما عداهم يقع في رؤياهم الصدق .

                                                                                                          والأضغاث ، وهم ثلاثة مستورون ، فالغالب استواء الحال في حقهم ، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق ، وكفار ويندر فيها الصدق جدا .

                                                                                                          ويرشد لذلك خبر مسلم مرفوعا : " وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا " ، وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية