الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 217 ] ( ومصرف الجزية والخراج ومال التغلبي وهديتهم للإمام ) وإنما يقبلها إذا وقع عندهم إن قتالنا للدين لا الدنيا جوهرة ( وما أخذ منهم بلا حرب ) ومنه تركة ذمي وما أخذه عاشر منهم ظهيرية ( مصالحنا ) خبر مصرف ( كسد ثغور وبناء قنطرة وجسر وكفاية العلماء ) والمتعلمين تجنيس وبه يدخل طلبة العلم فتح ( والقضاة والعمال ) ككتبة قضاة وشهود قسمة ورقباء سواحل ( ورزق المقاتلة وذراريهم ) أي ذراري من ذكر مسكين واعتمده في البحر قائلا : وهل يعطون بعد موت آبائهم حالة الصغر ؟ [ ص: 218 ] لم أره ، وإلى هنا تمت مصارف بيت المال ثلاثة ، [ ص: 219 ] فهذا مصرف جزية وخراج ومصرف زكاة وعشر مر في الزكاة ، ومصرف خمس وركاز مر في السير وبقي رابع وهو لقطة وتركة بلا وارث ، ودية مقتول بلا ولي ، ومصرفها لقيط فقير وفقير بلا ولي وعلى الإمام أن يجعل لكل نوع بيتا يخصه وله أن يستقرض من أحدها ليصرفه للآخر ويعطي بقدر الحاجة والفقه والفضل فإن قصر كان الله عليه حسيبا زيلعي . وفي الحاوي : المراد بالحافظ في حديث { لحافظ القرآن مائتا دينار } - [ ص: 220 ] هو المفتي اليوم ولا شيء لذمي في بيت المال إلا أن يهلك لضعفه فيعطيه ما يسد جوعته ( ومن مات ) ممن ذكر ( في نصف الحول حرم من العطاء ) لأنه صلة فلا تملك إلا بالقبض ، وأهل العطاء في زماننا القاضي والمفتي والمدرس صدر شريعة ( ولو ) مات ( في آخره ) أو بعد تمامه كما صححه أخي زاده ( يستحب الصرف إلى قريبه ) لأنه أوفى تعبه فيندب الوفاء له ومن تعجله ثم مات أو عزل قبل الحول يجب رد ما بقي وقيل لا كالنفقة المعجلة زيلعي

[ ص: 217 ]

التالي السابق


[ ص: 217 ] مطلب في مصارف بيت المال

( قوله ومصرف الجزية والخراج إلخ ) قيد بالخراج لأن العشر مصرفه مصرف الزكاة كما مر ( قوله وإنما يقبلها إلخ ) ترك قيدا آخر ذكره في الجوهرة وهو أن يكون المهدي لا يطمع في إيمانه لو ردت هديته فلو طمع في إيمانه بالرد لا يقبل منه ( قوله وما أخذ منهم بلا حرب ) فيه أن ما قبله مأخوذ بحرب ، لكن فسره في النهر بالمأخوذ صلحا على ترك القتال قبل نزول العسكر بساحتهم ( قوله مصالحنا ) نبه بذلك على أنه لا يخمس ولا يقسم بين الغانمين نهر ، وهو جمع مصلحة بفتح الميم واللام ما يعود نفعه إلى الإسلام ط عن القهستاني ( قوله كسد ثغور ) أي حفظ المواضع التي ليس وراءها إسلام ، وفيه إشعار بأنه يصرف إلى جماعة يحفظون الطريق في دار الإسلام عن اللصوص قهستاني ( قوله وبناء قنطرة وجسر ) القنطرة ما بني على الماء للعبور ، والجسر بالفتح والكسر ما يعبر به النهر وغيره مبنيا كان أو غيره كما في المغرب ومثله بناء مسجد وحوض ، ورباط وكري أنهار عظام غير مملوكة كالنيل وجيحون قهستاني وكذا النفقة على المساجد كما في زكاة الخانية فيدخل فيه الصرف على إقامة شعائرها من وظائف الإمامة والأذان ونحوها بحر ( قوله وكفاية العلماء ) هم أصحاب التفسير والحديث والظاهر أن المراد بهم من يعلم العلوم الشرعية ، فيشمل الصرف والنحو وغيرهما حموي عن البرجندي ط . وفي التعبير بالكفاية إشعار بأنه لا يزاد عليها وسيأتي بيانه وكذا يشعر باشتراط فقرهم ، لكن في حظر الخانية سئل علي الرازي عن بيت المال هل للأغنياء فيه نصيب قال : لا إلا أن يكون عاملا أو قاضيا ، وليس للفقهاء فيه نصيب إلا فقيه فرغ نفسه لتعليم الناس الفقه أو القرآن . ا هـ .

قال في البحر : أي بأن صرف غالب أوقاته في العلم وليس مراد الرازي الاقتصار على العامل ، أو القاضي ، بل أشار بهما إلى كل من فرغ نفسه لعمل المسلمين فيدخل فيه المفتي والجندي ، فيستحقان الكفاية مع الغني ا هـ وذكر قبله عن الفتح أن طالب العلم قبل أن يتأهل عامل لنفسه لكن ليعمل بعده للمسلمين ( قوله والعمال ) من عطف العام على الخاص لما في القهستاني أنه بالضم والتشديد جمع عامل ، وهو الذي يتولى أمور رجل في ماله وعمله كما قال ابن الأثير ، فيدخل فيه المذكر والواعظ بحق وعلم كما في المنية ، وكذا الوالي وطالب العلم والمحتسب ، والقاضي ، والمفتي والمعلم بلا أجر كما في المضمرات ( قوله وشهود قسمة ) بالسين المهملة أي الذين يشهدون القسمة بين الورثة ، والشركاء واستيفاء حقوقهم ، وفي نسخة : وشهود قيمة بالياء المثناة التحتية أي الذين يشهدون على التقويم عند الاختلاف في القيمة ط ( قوله ورقباء سواحل ) جمع رقيب من رقبته أرقبه من باب قتل : أي حفظته والسواحل جمع ساحل ، وهو شاطئ البحر مصباح فالمراد الذين يحفظون السواحل ، وهم المرابطون في الثغور أو أعم فافهم ( قوله ورزق المقاتلة ) الرزق بالكسر اسم من الرزق بالفتح ما ينتفع به قاموس ، وقال الراغب : الرزق يقال للعطاء الجاري دينيا كان أو دنيويا وللنصيب ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به قهستاني ط ( قوله أي ذراري من ذكر إلخ ) لأن العلة تعم الكل كما صرح به القهستاني ومنلا مسكين وغيرهما ، وعبارة الهداية والكافي توهم تخصيصهم بالمقاتلة وبه صرح شارح [ ص: 218 ] المجمع قال في الشرنبلالي قال في البحر : وليس كذلك وتبعه في المنح در منتقى ، وفسر الذراري في شرح درر البحار بالزوجة والأولاد : مطلب من له استحقاق في بيت المال يعطى ولده بعده

( قوله لم أره ) نقل الشيخ عيسى السفطي في رسالته ما نصه قال أبو يوسف في كتاب الخراج : إن من كان مستحقا في بيت المال ، وفرض له استحقاقه فيه فإنه يفرض لذريته أيضا تبعا له ، ولا يسقط بموته وقال صاحب الحاوي الفتوى : على أنه يفرض لذراري العلماء ، والفقهاء والمقاتلة ، ومن كان مستحقا في بيت المال لا يسقط ما فرض لذراريهم بموتهم ا هـ ط . قلت : لكن قول المتون الآتي : ومن مات في نصف الحول حرم من العطاء ينافي ذلك إلا أن يجاب بأن ما يجري على الذراري عطاء مستقل خاص بالذراري لإعطاء الميت بطريق الإرث بين جميع الورثة تأمل ، لكن ما مر عن الحاوي لم أره في الحاوي القدسي ، ولا في الحاوي الزاهدي ، وراجعت مواضع كثيرة من كتاب الخراج فلم أره فيه والله أعلم . نعم قال الحموي في رسالته : وقد ذكر علماؤنا أنه يفرض لأولادهم تبعا ولا يسقط بموت الأصل ترغيبا ا هـ وذكر العلامة المقدسي : أن إعطاءهم بالأولى لشدة احتياجهم ، سيما إذا كانوا يجتهدون في سلوك طريق آبائهم . ا هـ . مطلب من له وظيفة توجه لولده من بعده

ونقل العلامة البيري عن الخزانة عن مبسوط فخر الإسلام : إذا مات من له وظيفة في بيت المال لحق الشرع وإعزاز الإسلام كأجر الإمامة والتأذين ، وغير ذلك مما فيه صلاح الإسلام والمسلمين وللميت أبناء يراعون ويقيمون حق الشرع وإعزاز الإسلام ، كما يراعي ويقيم الأب فللإمام أن يعطي وظيفة الأب لأبناء الميت لا لغيرهم لحصول مقصود الشرع ، وانجبار كسر قلوبهم . ا هـ . مطلب تحقيق مهم في توجيه الوظائف للابن

قال البيري أقول : هذا مؤيد لما هو عرف الحرمين الشريفين ومصر والروم من غير نكير من إبقاء أبناء الميت ولو كانوا صغارا على وظائف آبائهم مطلقا من إمامة وخطابة ، وغير ذلك عرفا مرضيا لأن فيه إحياء خلف العلماء ومساعدتهم على بذل الجهد في الاشتغال بالعلم ، وقد أفتى بجواز ذلك طائفة من أكابر الفضلاء الذين يعول على إفتائهم . ا هـ . قلت : ومقتضاه تخصيص ذلك بالذكور دون الإناث ، وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته ، فإن العلة هي إحياء خلف العلماء ومساعدتهم على تحصيل العلم ، فإذا اتبع الابن طريقة والده في الاشتغال في العلم ، فذلك ظاهر .

أما إذا أهمل ذلك واشتغل باللهو واللعب أو في أمور الدنيا جاهلا غافلا معطلا للوظائف المذكورة ، أو ينيب غيره من أهل العلم بشيء قليل ، ويصرف باقي ذلك في شهواته ، فإنه لا يحل لما فيه من أخذ وظائف العلماء ، وتركهم بلا شيء يستعينون به على العلم كما هو الواقع في زماننا ، فإن عامة أوقاف المدارس والمساجد والوظائف في أيدي جهلة أكثرهم لا يعلمون شيئا من فرائض دينهم ، ويأكلون ذلك بلا مباشرة ولا إنابة بسبب تمسكهم بأن خبز الأب [ ص: 219 ] لابنه ، فيتوارثون الوظائف أبا عن جد كلهم جهلة كالأنعام ويكبرون بذلك فراهم وعمائمهم ، وينصدرون في البلدة حتى أدى ذلك إلى اندراس المدارس والمساجد ، وأكثرها صار بيوتا باعوها أو بساتين اشتغلوها ، فمن أراد أن يطلب العلم لا يجد له مأوى يسكنه ولا شيئا يأكله فيضطر إلى أن يترك العلم ، ويكتسب ووقع في زماننا أن رجلا من أكابر دمشق مات عن ولد أجهل منه لا يقرأ ولا يكتب فوجهت من وظائفه تولية مسجد ومدرسة على رجلين من أعلم علماء دمشق فذهب ولده وعزلهما عن ذلك بالرشوة ، وفي أواخر القرن الثالث من الأشباه إذا ولى السلطان مدرسا ليس بأهل لم تصح توليته وفي البزازية السلطان إذا أعطى غير المستحق فقد ظلم مرتين بمنع المستحق وإعطاء غيره ا هـ ففي توجيه هذه الوظائف لأبناء هؤلاء الجهلة ضياع العلم ، والدين ، وإعانتهم على إضرار المسلمين ، فيجب على ولاة الأمور توجيهها على أهلها ونزعها من أيدي غير الأهل ، وإذا مات أحد من أهلها توجه على ولده فإن لم يخرج على طريقة والده يعزل عنها وتوجه للأهل إذ لا شك أن غرض الواقف إحياء ما أوقفه من ذلك ، فكل ما كان فيه تضييعه فهو مخالف لغرض الشرع والواقف هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

( قوله فهذا ) أي ما ذكر من المصالح وقوله مصرف جزية ، وخراج أي ونحوهما مما ذكر معهما ( قوله مر في الزكاة ) أي في باب المصرف ( قوله مر في السير ) أي في فصل كيفية القسمة ( قوله وبقي رابع ) تقدم هذا مع الثلاثة التي قبله نظما لابن الشحنة في آخر باب العشر من كتاب الزكاة وقدمنا الكلام عليها ( قوله وفقير بلا ولي ) أي ليس له من تجب نفقته عليه قال في البحر : يعطون منه نفقتهم وأدويتهم ويكفن به موتاهم ويعقل به جنايتهم . ا هـ . [ تنبيه ]

قال في الأحكام : العلماء يستحقون من النوع الأول بالعمل مع الغنى ، ومن النوع الثاني بصفة الفقر ونحوهما ، ومن النوع الثالث بأحد صفات مستحقيه ، ومن النوع الرابع بصفة المرض ، ونحوه ومن خص استحقاقهم بالأول نظر إلى محض صفة العلم . ا هـ . ( قوله بيتا يخصه ) فلا يخلط بعضه ببعض لأن لكل نوع حكما يختص به زيلعي ( قوله ليصرفه للآخر ) أي لأهله قال الزيلعي : ثم إذا حصل من ذلك النوع شيء رده في المستقرض منه إلا أن يكون المصروف من الصدقات ، أو من خمس الغنيمة على أهل الخراج وهم فقراء ، فإنه لا يرد فيه شيئا لأنهم مستحقون للصدقات بالفقر وكذا في غيره إذا صرفه إلى المستحق . ا هـ .

( قوله ويعطي بقدر الحاجة إلخ ) الذي في الزيلعي هكذا ، ويجب على الإمام أن يتقي الله تعالى ويصرف إلى كل مستحق قدر حاجته من غير زيادة فإن قصر في ذلك كان الله تعالى عليه حسيبا . ا هـ . وفي البحر عن القنية : كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يسوي في العطاء من بيت المال ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يعطيهم على قدر الحاجة والفقه والفضل ، والأخذ بهذا في زماننا أحسن فتعتبر الأمور الثلاثة ا هـ أي فله أن يعطي الأحوج أكثر من غير الأحوج ، وكذا الأفقه والأفضل أكثر من غيرهما وظاهره أنه لا تراعى الحاجة في الأفقه والأفضل ، وإلا فلا فائدة في ذكرهما ، ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعطي من كان له زيادة فضيلة ، من علم ، أو نسب أو نحوه ذلك أكثر من غيره ، وفي البحر أيضا عن المحيط والرأي إلى الإمام من تفضيل وتسوية من غير أن يميل في ذلك إلى هوى ، وفيه عن القنية وللإمام الخيار في المنع والإعطاء في الحكم . ا هـ .

[ ص: 220 ] قلت : ومثله في كتاب الخراج لأبي يوسف الذي خاطب به هارون الرشيد حيث قال : فأما الزيادة على أرزاق القضاة والعمال والولاة والنقصان مما يجري عليهم ، فذلك إليك من رأيت أن تزيده من الولاة والقضاة في رزقهم فزده ومن رأيت أن تحط رزقه حططت ( قوله هو المفتى اليوم ) لأنهم كانوا يحفظون القرآن ويعلمون أحكامه ط ( قوله ممن ذكر ) أي ممن يقوم بمصالح المسلمين ، كالقضاة والغزاة ، ونحوهم زيلعي ( قوله في نصف الحول ) المراد به ما قبل آخره بقرينة قوله ولو في آخره ط ( قوله حرم من العطاء ) هو ما يثبت في الديوان باسم كل ممن ذكرنا ، من المقاتلة وغيرهم ، وهو كالجامكية في عرفنا إلا أنها شهرية ، والعطاء سنوي فتح ( قوله لأنه صلة ) ولذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض فلا يورث ويسقط بالموت فتح ( قوله في زماننا ) قال في العناية وفي الابتداء كان يعطى كل من كان له ضرب مزية في الإسلام كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأولاد المهاجرين والأنصار ( قوله القاضي والمفتي والمدرس ) عبارة البحر مثل القاضي ، والمفتي والمدرس : وهي أولى لشمولها نحو المقاتلة . ا هـ . ح . قلت : وهي عبارة الهداية أيضا .

( قوله أو بعد تمامه ) هذا مفهوم بالأولى لأنه إذا استحب الصرف إلى القريب قبل التمام فبعده أولى ( قوله فيندب الوفاء له ) قال في الفتح : والوجه يقتضي الوجوب لأن حقه تأكد بإتمام عمله في السنة ، كما قلنا إنه يورث سهم الغازي بعد الإحراز بدار الإسلام لتأكد الحق حينئذ ، وإن لم يثبت له ملك وقول فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير ، وإنما خص نصف السنة لأن عند آخرها يستحب أن يصرف ذلك إلى ورثته ، فأما قبل ذلك فلا إلا على قدر عنائه يقتضي أن يعطي حصته من العام ا هـ ( قوله قيل يجب إلخ ) عبارة الزيلعي قيل يجب رد ما بقي من السنة ، وقيل على قياس قول محمد في نفقة الزوجة يرجع ، وعندهما لا يرجع هو يعتبره بالإنفاق على امرأة ليتزوجها وهما يعتبرانه بالهبة ا هـ ونقل في الشرنبلالي تصحيح وجوب الرد عن الهداية والكافي ولكني لم أره فيهما في هذا الموضع فليراجع .




الخدمات العلمية